أدّى تفشي فيروس "كورونا" عالمياً إلى تغيير جذري في نظام عمل الدول والمؤسسات، وفي كيفية استخدام الموظفين لوقتهم في العمل وخارجه. وفي غضون فترة زمنية قصيرة، أُجبر أرباب العمل على وضع ترتيبات عمل بديلة ووضع سياسات جديدة تركت تأثيرها الملحوظ على المؤسسات والموظفين في الوقت ذاته.
ويبدو أن مستقبل العمل يتغيّر بسرعة بعد التجربة الاستثنائية التي فرضتها الجائحة بالعمل من المنزل، وما وفرته من مرونة للعمال دفعت العديد منهم لتأكيد مطالباتهم السابقة بأسبوع عمل مكون من 32 ساعة.
وكانت حكومات وشركات في دول مثل أيسلندا ونيوزيلندا وإسبانيا واليابان اختبرت العمل لأربعة أيام في الأسبوع، وأبلغت عن نتائج واعدة للغاية. ومن المقرر أن تبدأ إيرلندا خوض تجربة مماثلة في مطلع السنة المقبلة. كما تعهد حزب العمال البريطاني بجعل ساعات العمل الأسبوعية 32 ساعة في حال وصوله الى السلطة، ويوجد مشروع قانون في الكونغرس الأميركي لتبني الأمر نفسه.
وتشير الدراسات التجريبية إلى حصول زيادة في الإنتاجية من 25 إلى 40 في المائة مع إنقاص عدد أيام العمل الأسبوعية إلى أربعة. كما كان هناك تحسن في نوعية الحياة لدى العمال نتيجة الموازنة بين المتطلبات الشخصية والعائلية ومقتضيات العمل، وتراجع في عدد الإجازات المرضية، وانخفاض في الأموال التي تُنفق على النقل ورعاية الأطفال.
ولا تتعلق موجة الاهتمام بالعمل لأربعة أيام في الأسبوع برفاهية العمال فحسب، بل تأخذ بُعداً بيئياً جديراً بالاهتمام. وحسب تقارير عدة، يمكن لإنقاص عدد أيام العمل خارج المنزل أن يخفض البصمة الكربونية ويحسّن نوعية الحياة.
وكانت دراسة، أجريت في سنة 2012 باستخدام بيانات 29 دولة في منظمة التعاون الاقتصادي تعود للفترة بين 1970 و2007، وجدت أن تخفيض ساعات العمل بنسبة 10 في المائة أدى إلى تراجع الطلب على الموارد الطبيعية بمقدار 12.1 في المائة وتناقُص الانبعاثات الكربونية المكافئة بمقدار 14.6 في المائة.
وتخلُص دراسة تحليلية، أجريت في سنة 2019 على عينة من أرباب العمل والعاملين في بريطانيا، إلى أن جعل أيام العمل في الأسبوع أربعة أيام فقط سيقلل المسافات المقطوعة بالسيارة بمقدار 9 في المائة، وسيكون من شأن ذلك تخفيض استهلاك الوقود وتكاليف السفر.
ويعدّ قضاء وقت أقل على الطرقات أمراً جيداً من الناحية الصحية أيضاً نتيجة انخفاض التعرض لملوثات الهواء، العامل المسبب لوفاة 7 ملايين شخص سنوياً، وتقليل الطلب على منتجات وخدمات الرعاية الصحية. كما أن تجنب التوتر والقلق المرتبطين بالازدحام المروري مفيد أيضاً للصحة العقلية، خاصةً بين النساء.
ومع عطلة لمدة ثلاثة أيام في نهاية الأسبوع، سيحظى العاملون بفرصة أكبر لممارسة الرياضة وقضاء بعض الوقت في الهواء الطلق، أو القيام بأشياء أخرى تعمل على تحسين صحتهم الجسدية والعقلية. وهذا يعني انخفاضاً في الطلب على خدمات الرعاية الصحية.
ويؤدي تقليل أيام العمل إلى تقليل الحاجة للسلع والخدمات التي تستخدم يومياً في مكان العمل. فسيتم استثمار أجهزة الحاسوب والآلات لفترة أطول، ولن تتطلب ملابس العمل الاستبدال في كثير من الأحيان، وستقل الحاجة لأعمال النظافة. وفي المحصلة، سيتراجع إنتاج هذه السلع والخدمات الذي يقوم عادةً على استهلاك الموارد الطبيعية وإطلاق الانبعاثات الكربونية.
من ناحية أخرى، يمكن أن ينتج عن العمل لأربعة أيام في الأسبوع بعض الآثار البيئية السلبية، حيث توجد حاجة لوضع سياسات واستراتيجيات للتقليل منها وتعظيم المكاسب الخضراء الصافية. ويعتمد حاصل الفوائد في هذه الحالة على كيفية استخدام العمال لعطلة نهاية أسبوع مكونة من ثلاثة أيام، فإذا جرى استخدامها للقيام برحلات جوية خلال فترات قصيرة أو قيادة سيارة رياضية سريعة أو حتى مشاهدة التلفزيون في المنزل مع استهلاك مكثّف للطاقة في التدفئة أو تبريد الهواء، فإن ساعات العمل القليلة قد تعود بنتائج عكسية على البيئة.
وقد لا يحقق أسبوع العمل المكوَّن من أربعة أيام جميع الفوائد المرجوة إذا تسبب في تضخيم حجم العمل وتكثيفه في هذه الأيام. وقد يدفع ذلك العاملين إلى إعادة جدولة مهامهم وأولوياتهم والعمل لساعات أطول مما هو متوقع، فيزداد القلق والإجهاد المرتبط بالأداء، ويرتفع الطلب على الخدمات الصحية.
كما أن الظروف الحياتية في أكثر من مكان في العالم، لا سيما تحت وطأة الركود الاقتصادي الناشئ عن جائحة فيروس كورونا، والنمو البطيء للأجور، ستعني أن أية خسارة في الدخل بسبب العمل لأربعة أيام في الأسبوع قد تجبر العمال على زيادة دخلهم من خلال القيام بوظائف إضافية. وهذا من شانه أن يلغي الفوائد البيئية ليوم الإجازة المفترض.
يمكن أن تؤدي التقنيات الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي، وأساليب العمل عن بُعد إلى مكاسب في الإنتاجية. ومن الضروري الاستفادة من ذلك بحكمة طالما أن العمل لأربعة أيام في الأسبوع يحقق ناتج العمل لخمسة أيام نفسه من دون فقدان الوظائف أو إنقاص الدخل.
وإذا كان العمال يقضون وقت فراغهم الإضافي في تعزيز صحتهم ورفاهيتهم، ستكون هناك حاجة لمزيد من الاستثمارات في البنى التحتية التي تنتج كربوناً أقل. وهذا يعني مواصلات عامة أفضل، ومزيداً من الأماكن العامة كالحدائق والمكتبات والمراكز المجتمعية والمرافق الرياضية.
ومن الأهمية بمكان أن يدرك العمال كيفية القيام بالمهام الموكلة إليهم خلال أربعة أيام عمل، ويستلزم ذلك تقديم الدعم المناسب وإطلاق برامج تدريبية مدروسة بعناية. فإذا كان العمال على استعداد لتغيير وجهات نظرهم وإجراء تعديلات سلوكية إيجابية، يمكن لمفهوم أسبوع العمل المكوَّن من أربعة أيام أن يصبح مفيداً لهم ولأسرهم ولأرباب العمل وللبيئة.