Sunday 22 Dec 2024 |
AFED2022
 
AFEDAnnualReports
Environment and development AL-BIA WAL-TANMIA Leading Arabic Environment Magazine
المجلة البيئية العربية الاولى
 
مقالات
 
عبد الباسط خلف (جنين) ذكـريـات مــزارع من مرج ابن عامر  
تشرين الأول (أكتوبر) 2004 / عدد 79
 يحمل الحاج أبو أنور في وجهه العديد من التجاعيد، تخفي كل واحدة منها حكايات وأسراراً. فهذا الرجل السبعيني عشق الأرض منذ كان في الثانية عشرة من عمره، واستمر في "رومانسيته" إلى أن غزا الشيب رأسه وتشابكت تجاعيد وجهه.
في شريط ذكرياته، العتيقة والجديدة، يختزن الحاج محمد خلف النهج الذي ورثه عن والده والتعاليم التي نقلتها اليه أمه ولم يتخلَّ عنها للحظة واحدة.
يروي: "عمل والدي في الزراعة واستصلاح الأرض. وكان يحول الأراضي الوعرة والصخرية الى جنات زيتون خضراء. فتعلمت أن الأرض هي أساس كل شيء".
جغرافيا العشق
في العاشرة من عمره ترك المدرسة الصغيرة وحُصرها الفقيرة التي كان التلاميذ يجلسون عليها، وانتقل لمساعدة والديه في رعي الأبقار. وهو أنهى الصف الرابع، ولو واصل الدراسة حتى الصف السادس لأصبح مدرساً. يقول: "كنت متفوقاً في دراستي، وكنا نتلقى التعليم على فترتين، الأولى من الصباح الباكر إلى الظهيرة، نعود بعدها لتناول الغداء في بيوتنا، ونستأنف الفترة الثانية حتى تغيب الشمس".
كان الحاج محمد ورفاقه يتلقون من مدرسهم الكثير من العلوم. وما زال يذكر بتفاصيل دقيقة كيف كانوا يتتبعون في دروس الجغرافيا مسار القطار من أول القارة الأوروبية إلى آخرها. كانوا يتوقفون في كل دولة، فيتمعنون في خريطتها ويتعرفون الى جبالها وأنهارها ومدنها ودول الجوار. وربما كان هذا سبب شغفه بالأرض، فالجغرافيا هي التي تعرِّف المرء ببلده وبأرض أجداده وبقيمة كل شبر من البقعة التي شهدت ولادته وشغبه الطفولي وتضحياته.
يقول من وحي "بنكه المركزي" من التاريخ الممزوج بالشقاء واللذة: "هذا الجيل مختلف، ولا يهتم بأرضه. بل على العكس، يعمل على ضياعها وبيعها. ويتابع بمرارة: "من يبيع أرضه يبيع كل شيء، حتى نفسه. ما قيمة الانسان بلا أرض؟ وما فائدة الأموال إذا لم يجد الإنسان مكاناً يمارس فيه حبه بأرضه وشجره وتاريخه؟"
في الثانية عشرة من عمره طور الحاج محمد، الذي يسكن بلدة برقين المجاورة لمدينة جنين في الضفة الغربية، الكثير من هيامه بأرضه. وكانت الحرب العالمية الثانية قد بدأت، "كنا في النهار نرعى الأبقار ونساعد العائلة في زراعة الأرض وتعشيبها وحصد ثمارها، وفي الليل نتحلق في منزل المختار للاستماع إلى نشرات الأخبار من المذياع الوحيد في البلدة". ويذكر أيضاً النسخ القليلة التي كانت تصل اليهم من صحف "الدفاع" و"الجهاد" و"المنار".
تعلم قبل الرابعة عشرة حراثة الأرض وزراعة الأشجار والحصاد بالمناجل التقليدية، قبل أن ترى آلة الحصاد النور: "كانت مواسم الحصاد تستمر على مدار الصيف، وكان الموسم الزراعي يبدأ من أوائل الربيع ويستمر حتى تشرين الأول (أكتوبر).
وهو يعزو الانتاجية المرتفعة للأرض في الماضي لاتباع أساليب حراثة بواسطة البهائم، فلم تكن الأرض تتشقق حتى بداية تموز (يوليو)، لأن الوجبة الأخيرة كانت في التاسع عشر من أيار (مايو) حسب التقويم الشرقي الذي يتمسك به لاحتساب فترات الشتاء وسقوط "الجمرات" والوسم المطري وأسماء سعود الشتاء (سعد ذابح، بلع، السعود، الخبايا...)
يوم عمل
يقدم أبو أنور كشف حساب بما كان المزارعون يمارسونه في موسم ما. البداية في حراثة الأرض بعد أن تجف من مطمرها الذي كان أكثر غزارة من أمطار السنين الحالية. ففي فترات معينة ومواسم كثيرة كنا نجلس في بيوتنا أربعين يوماً بسبب غزارة الأمطار. لم يكن الجار يستطيع الوصول الى جاره. كنا نزرع القمح في كانون الثاني (يناير) وقبله، وفي مواسم نتأخر الى شباط (فبراير). وننتقل للزراعات الصيفية، فنحرف الأرض على البغار والحمير، بعد أن نرش القليل من الزبل العربي العائد لأبقارنا، ونزرع البطيخ والشمام. لم نكن نعرف الأسمدة الكيماوية، ولم نلجأ لري مزروعاتنا، ولم تعرف حقولنا و"مقاثينا" الأمراض والآفات الزراعية التي نسمع عنها في هذه الأيام".
من بدايات نيسان (أبريل) حتى نهاية تموز (يوليو) كانوا يغادرون بيوتهم ويسكنون في الحقول، يوزعون عملهم بين رعاية المقاثي (مزارع البطيخ والشمام) وتجهيز الأرض لزراعة السمسم. وبعد جني المحاصيل التي تتزامن أحياناً مع الحصاد، كانوا يصدرونها الى أسواق الشام والعراق والأردن، ثم يلتفتون الى مواسم السمسم، يعشبونه ويتحضرون في آب (أغسطس) لقلعه وجنيه وبدء موسم آخر. وكان موسم البيادر عرساً شاملاً لا يعرف خلاله الناسم النوم أو الجلوس في المنازل. وفيه كانت تبرم صفقات زواج وتجارة واتفاقات ضمان أراض أو بيعها أو تبديلها أو تعميرها، وتعقد منتديات للسياسة ومناقشة هموم البلد والولد.
المطر الغائب
ينتقل أبو أنور لوصف حال الشتاء. كان وأخوته يمضون فترات طويلة من الفصل الماطر في استصلاح الأراضي الوعرة وتحويلها الى كروم للزيتون. يشير إلى الأدوات التي كان يستخدمها، وما زال، في إعادة إصلاح ما أفسدته عوامل الطبيعة. فهناك عتلة حديد يستعملها كرافعة للإطاحة بالصخور الكبيرة، بعد أن يمهد الطريق بإزالة الحجارة والأتربة باستخدام الفأس، ثم يعمد لتفتيت الصخور الضخمة بواسطة مطرقة ثقيلة (مهدة) وأزاميل مختلفة الأحجام، وينظفها من الصخور الصغيرة، ويبحث عن الأتربة بين الشقوق المنتشرة هنا وهناك، ويعمد في المحطة الأخيرة لغرس الشتول البرية التي يجمعها من الحقول الكبيرة، ويسرع في تطعيمها بالأصناف المحسنة.
استطاع الحاج محمد أن يستصلح بمفرده عشرين دونماً في منطقة تشرف على شارع جنين – نابلس قرب مثلث الشهداء. وعمَّر في بداية الخمسينات قطعة أخرى بسماحة عشرة دونمات جبلية، وأضاف إلى سجله خمسة دونمات في قلب مدينة جنين، وفي أوائل الثمانينات عمّر قطعتين أخريين في المنطقة ذاتها. وهو يحرث الأماكن الوعرة على الخيول، ثلاث مرات كل سنة، ويعيد الكرة بتعشيب ما ينجو من المحراث بواسطة أدوات يدوية.
ذكريات مرج ابن عامر
في الخمسينات والستينات والسبعينات، كان يزرع هو وأخوته والكثير من الفلاحين في مرج ابن عامر: "كانت ثمار البطيخ تتجاوز في وزنها العشرة كيلوغرامات، من دون أن نستخدم الري والأسمدة الكيماوية والمبيدات. أما اليوم فالأرض تعبت، وأتعبها الناس".
يعزو سبب تراجع الإنتاجية الزراعية الى التناقص الكبير في معدل سقوط الأمطار خلال مواسم الشتاء، والإفراط في استعمال أسمدة كيماوية قضت على الأرض، والأساليب الحديثة في الحراثة. كانوا في الماضي يحرثون بواسطة البهائم، ويُنعمون الأرض أكثر من مرة، ولا يستخدمون إلا الزبل الطبيعي (العرب). وإن حدثت آفات زراعية فثمة أساليب بسيطة، كنثر محلول الكبريت الأصفر، ورش القليل من الرماد أو سخام الطوابين العربية المستخدمة لصناعة الخبز التقليدي.
يقول: "إنهم دمروا مرج ابن عامر وحولوه الى بيوت للسكن، وسيأتي يوم لا نجد فيه كيساً من القمح". ويعتبر أن ضياع أرض كمرج ابن عامر خسارة لا تعوض، فهو أخصب منطقة زرع فيها خلال حياته. هذا الموقع الزراعي، الذي كان يمتد على مساحة 360 كيلومتراً، يعد أعظم سهل داخلي في فلسطين يجمع بين مساحة عظيمة وموقع حيوي وقيمة اقتصادية عالية وتربة غنية وذات مقدرة هائلة على الاحتفاظ بالماء. ويحاط المرج، الذي شوهته البنايات العشوائية والطرق الواسعة غير الحكيمة كما يقول، بثلاث كتل جبلية: طابور (أو الطور) والدحي وسلسلة جبال فقوعة. ويبدو المرج كلوحة طبيعية حولتها الاعتداءات الى ما يشبه البقع في جلد نمر عقيم. وعند رأس مثلثه من الجنوب الشرقي ترقد جنين الي بدأت تنهش من أراضي المرج بعنف.
اضطر أبو أنور وأولاده الى الحفاظ على أرضهم الزراعية في وجه مخططات تنظيمية كادت تلتهم أجزاء منها. فبعد أن كانوا يزرعونها بمحاصيل حقلية، غرسوها بأشجار الحمضيات.
يسترسل: "أعرف كل شجرة زيتون في أرضي، وأتذكر من أين حصلت عليها ومتى زرعتهاز تحت كل واحدة من الأشجار الخضراء العديد من الذكريات". وهو طارد لصوصاً قدموا الى أرضه، بدعوى التنقيب عن الآثار التاريخية والذهب، فسرقوا شجرة قال إنه غرسها قبل نصف قرن.
يصف الزيتون بأنه أساس البيت. فبدونه لا تستطيع الأسر الفقيرة العيش، وهو لا يحتاج الى جهد كبير مقارنة بأشجار كاللوزيات القصيرة العمر والكثيرة المرض.
وينتابه القلق من تراجع المطر، الذي ينهك الشجر وبخاصة الحديث الزراعة. فيعمد طوال قيظ الصيف لتوفير مصدر ري دائم خوفاً من الجفاف. ويرى أن الإهمال، وتفريط الأجيال الحالية بالزيتون، والرعي الجائر، إضافة الى ندرة المطر، من أشد الأخطار لاالتي تحدق بالشجرة المباركة والحنونة كما يسميها.
نقل أبو أنور عشقه للأرض الى أبنائه، إذ يعمل أربعة من أصل سبعة في الزراعة بعد أن أدخلوا بعض التحديثات. ويوصي دوماً أحفاده السبقة والعشرين بالمثابرة وبزراعة الزيتون في حدائقهم المنزلية "بدلاً من الورود أو الكلام الفارغ" كما يصفها.
 
 
 
 

اضف تعليق
*الاسم الكامل  
*التعليق  
CAPTCHA IMAGE
*أدخل الرمز  
   
نبيل زغدود (تونس) الزراعـة البيولـوجيـة في تـونس
عبدالهادي النجار ناطحات السحاب العربية
بيروت – "البيئة والتنمية" منتجــات مـن نفـايات
عادل فاخر (بغداد) حصاد يطوّر الزراعة في العراق
إنصاف عثمان الزاكي - الخرطوم حصاد المياه في السودان
 
بندر الأخضر صديق البيئة
(المجموعة الكاملة)
البيئة والتنمية
 
اسأل خبيرا
بوغوص غوكاسيان
تحويل النفايات العضوية إلى سماد - كومبوست
كيف تكون صديقا للبيئة
مقاطع مصورة
 
احدث المنشورات
البيئة العربية 9: التنمية المستدامة - تقرير أفد 2016
 
ان جميع مقالات ونصوص "البيئة والتنمية" تخضع لرخصة الحقوق الفكرية الخاصة بـ "المنشورات التقنية". يتوجب نسب المقال الى "البيئة والتنمية" . يحظر استخدام النصوص لأية غايات تجارية . يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص الأصلي. لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر يرجى الاتصال بادارة المجلة
©. All rights reserved, Al-Bia Wal-Tanmia and Technical Publications. Proper reference should appear with any contents used or quoted. No parts of the contents may be reproduced in any form by any electronic or mechanical means without permission. Use for commercial purposes should be licensed.