Wednesday 27 Nov 2024 |
AFED2022
 
AFEDAnnualReports
Environment and development AL-BIA WAL-TANMIA Leading Arabic Environment Magazine
المجلة البيئية العربية الاولى
 
مقالات
 
فتيحـة الشرع (الخرطوم) عطش في السودان  
أذار (مارس) 2010 / عدد 144
 البَـرَكـة في البكور. منذ اللحظات الأولى لانبلاج الصبح تهرع النسوة وخلفهن أطفالهن باتجاه عيون الماء التي نصبت هنا وهناك، أو إلى الأحواض الاسمنتيـة التي أقيمت إلى جانب ضفاف النيل تفادياً للانزلاق والغرق في المناطق العميقة. يحملن الدلاء والقوارير البلاستيكية في خطوات مسرعة، لكي يظفرن بمكان متقدم في الطابور الذي يطول على امتداد البصر.
ولا يهم عدد الساعات التي يقضينها لملء أوعيتهن، لأن الأمر متعلق بسرعة قطرات الماء النازلة أو الكمية المتوافرة داخل الأحواض، التي غالباً ما يزاحمهن فيها مربو الإبل والمواشي لسقي بهائمهم. وقد تمتد ساعات الانتظار في فصول الجفاف من الفجر إلى الغروب للحصول على هذا السائل الثمين.
وقد شاءت المصادفة أن تتزامن زيارتنا مع موسم الحر الذي يبدأ في آذار (مارس) ويستمر الى آب (أغسطس) حين يبدأ الجو بالاعتدال نتيجة كثافة التساقط. فرأينا أناساً يلبسهم البؤس المدقع، من كلا الجنسين ومن كل الأعمار، تحت شمس من رصاص. فمنهم الواقف، ومنهم الجالس القرفصاء، ومنهم من وضع كفيه على وجهه سابحاً في غيبوبة التعب، ومنهم من غطى رأسه بدلوه، وكلّهم مستسلم لسلطان الماء مصدر الحياة.
هذه الصور القاتمة ربما لم تسلم منها أي جهة من الجهات الأربع للبلد. وتزداد قتامتها في منطقة دارفور، حيث تبلغ الحصة اليومية لعائلة لا يقل عدد أفرادها غالباً عن ثمانية أشخاص نحو 60 ليتراً.
أثناء إقامتنا في دارفور لتفقد أهم المخيمات التي تحرص السلطات أن تكون المزار الوحيد للأجانب، من بينها مخيما أبو شوك وزمزم، سمعنا بعضهم يتحدث عن آخر اكتشاف يتعلق بكمية هائلة من المياه الجوفية في تلك المنطقة، وعن مشروع إنشاء ألف بئر تغطي كل دارفور. وذلك بفضل تحليلات الدكتور فاروق الباز مدير مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن الأميركية، لصور فضائية كشفت وجود مخزونات ضخمة من المياه العذبة تحت الصحراء. لكن لم نشاهد ما يدل على هذه البحبوحة المائية، بل يكاد يُخيّـل الى الرائي أن لا قطرة في هذه القفار.
 
بين الوفرة والندرة
إن أعقد ما يواجه الحكومة السودانية هو إيجاد آليات ووسائل ناجعة لتوزيع المياه بطريقة عادلة بين كل السودانيين، فحول هذه الإشكالية الحادة تدور كل الرهانات. قال لي نائب في البرلمان آثر عدم كشف اسمه: ''هذه الحالة ما هي في الحقيقة إلا إحدى الواجهات الشفافة التي تعكس عجز السلطات عن تسيير الأزمات. يُضاف الى ذلك النقص الفادح في توافر الأنظمة التقنية، وغياب التخطيط الذي يستند الى المقاييس العلمية لحل المشاكل التي تعترض يوميات المجتمع السوداني".
تعيش أحياء كثيرة في العاصمة الخرطوم من دون ماء لعدة أيام متتالية. وتختلف أسباب ذلك وتتعدد، من التسربات غير المعالجة إلى الانقطاعات المبرمجة عند حدوث اختلاط مياه الشرب بمياه الصرف من جراء عدم وجود شبكة مجارير في أحياء كثيرة وانتشار الحفر ''الصحية''. وإذا كانت نتائج هذه الوضعية الشاقة معروفة ومعاشة يومياً، فإن الأسباب معلومة، وتتمثل في قِدم القنوات ونقص صيانة الشبكة العتيقة الباقية من عهد الاستعمار البريطاني ''الذي لم يترك أي أثر للتصاميم'' كما أخبرنا خالد هلال، وهو مهندس دولة في الري ومسؤول في الهيئة الوطنية للموارد المائية.
التقينا أحد القاطنين في الأحياء المتوسطة الحال، فاشتكى قائلاً: ''على المواطن البسيط أن يفعل المستحيل لمواجهة قلّة المياه وتذبذبها بسبب الانقطاعات المتكررة. زد على ذلك ضعف التدفق الذي يطيل ساعات الانتظار لملء ما يلزمك''. وأضاف أن العائلات الميسورة تمتلك مضخات داخل منازلها، ولا تتوانى في حرمان جيرانها الفقراء من نصيبهم في الكمية الواردة إلى الحي، ''فهم يملأون خزاناتهم ويقضون حاجاتهم اليومية في راحة غير مبالين بما يحدث في الجوار".
معاناة هذا المواطن تبدأ مع أولى القطرات التي يسمع نزولها في تباطؤ مثقل ولساعات معدودات ''لا تضمن الحد الأدنى لمعيشة صحية لعائلتي''. ويتفاقم الوضع يومياً مع تدفق موجات النازحين إلى التجمعات السكانية الكبرى.
الغريب أن مشاكل التزود بالماء هذه تُطرح في بلد يغذيه أكبر نهر في العالم، وهو نهر النيل الذي يتجاوز طوله 6000 كيلومتر. ويلتقي النيل الأبيض والنيل الأزرق في العاصمة الخرطوم ليواصلا مجراهما في خط واحد ينتهي به المطاف في البحر المتوسط مشكلاً دلتا في شمال مصر.
وقد أخبرنا المهندس خالد هلال أن تغيُر الخصائص الهيدرولوجية لهذا النهر تسبب في نزول مستوى سرير الوادي، مصحوباً بعدم استقرار الرعاة الذين يتنقلون طلباً للكلأ والماء. كما تسبب في تزايد انحسار الدلتا الذي يصل في بعض المناطق إلى 200 متر في السنة، نتيجة الجفاف وتراجع كمية مياه النيل التي تصب فيها، ما قلص الرقعة الزراعية. وإلى كل تلك العوارض الطبيعية تأتي الأسباب التي هي من صنع الإنسان لتزيد الوضع سوءاً، خصوصاً التلوث الناجم عن رمي الملفوظات الصناعية التي تطرحها المصانع المحاذية لضفاف النيل.
 
بعد طول انتظار
في آذار (مارس) 2009، وبعد تأخر في احترام الآجال، دشنت الحكومة سد مروي أكبر سد في السودان على بعد 350 كيلومتراً شمال الخرطوم، وتبلغ قدرته 2,5 بليون متر مكعب. وهو يصنف من بين أهم الإنجازات الاستراتيجية للبلاد، بهدف رد الاعتبار الى الأراضي الزراعية وتحسين الأداء في تسيير الموارد المائية. وحتى الساعة لم يكتمل العمل بهذا السد لتفعيل أدائه، ويرجع ذلك إلى البطء في التنفيذ ربّما لأسباب مالية. قال لنا مدير الهيئة الوطنية للموارد المائية المهندس محمد الحسن عمار: ''مثل هذه المشاريع هي بحق رهانات اقتصادية واجتماعية".
وقال مسؤول آخر: ''هناك عدة برامج ذات أهمية مصيرية في طور الإنشاء، مثل بناء سدود جديدة ومد قنوات جديدة، وقد تطلّبت أغلفة مالية بأرقام فلكية، ولا يعرف أحد متى تنتهي الأشغال فيها ومتى يستفيد المواطن السوداني منها".
في موازاة ذلك، لم تتخذ السلطات المعنية بهذا القطاع مبادرات جدية لتشجيع التقنيات المستدامة في استغلال المياه وطرق السقي والممارسات الزراعية المتلائمة مع الوضع واحتياجات الإنسان. وخلال تجوالنا عبر المناطق أحصينا كثيراً من أنظمة ضخ المياه العشوائية والقديمة، كآبار الميزان (بكفتين) وتلك التي يعتمد فيها استخراج الماء على الجر الحيواني. أمّا في المناطق حيث يصل الماء إلى الحقول والمزارع عبر قنوات سقي مصنوعة من الطين، وهي طريقة قديمة للري، فإن كميات معتبرة من المياه تضيع بالتبخر لأن موسم الحر يمتد عدة أشهر.
 
لا تنمية بلا ماء
عندما يستولي الارتجال على زمام الأمور، تصبح ندرة المياه عائقاً حقيقياً أمام كل محاولة للتنمية الاقتصادية. ولا يكمن المشكل الأساسي في نقص الموارد المائية، بل يعود بالدرجة الأولى إلى التقنيات المعتمدة في إطار الإستراتيجيات المتبناة. قال لنا المهندس هلال: ''الدراسات المنجزة في هذا الشأن هي في غالب الأحيان بعيدة كل البعد عن الواقع ولا تتوفر فيها مقاييس الكفاءة، فضلاً عن التعديلات المفاجئة التي تطرأ أثناء مراحل التنفيذ مما ينسج الشكوك حول النتائج المرجوة''. وأضاف أن إصلاح هذا القطاع أصبح أكثر من ضرورة، بل هو يكتسي صبغة الاستعجال.
كل يوم، يشاهد زائر السودان قيام بنايات جديدة يوحي نمطها وارتفاعها وواجهاتها الزجاجية كأنها في مدينة دبي. وهي ممتلكات تعود في مجملها إلى النافذين. في المقابل، قلّما يُرى قيام مؤسسات وهياكل عمومية لخدمة المواطن وتسهيل ظروف عيشه وتطوير قطاع توزيع المياه.
وداخل ''كواليس'' الهيئة الوطنية للموارد المائية، سمعنا كلاماً كثيراً عن سوء تسيير المال العام المرصود لتجديد شبكة توزيع المياه وأشغال تكميلية أخرى. وتعزو الوزارة المعنية النقائص والهفوات المُسجلة إلى غياب التنسيق والتكامل بين القطاعات، فيد واحدة لا تصفق.
وكلّما مر الوقت تعـرّى الستـار على النقـائص التي تتكـاثر كلّما فاق الطلب العرض. ولا قرار بعد لتطوير الهياكل القاعدية التي تضمن لسكان الأرياف والمدن السودانيـة توزيعاً يلبي الاحتياجات من دون تمييز اجتماعي أو عرقي.
 
 
 
 

اضف تعليق
*الاسم الكامل  
*التعليق  
CAPTCHA IMAGE
*أدخل الرمز  
   
 
بندر الأخضر صديق البيئة
(المجموعة الكاملة)
البيئة والتنمية
 
اسأل خبيرا
بوغوص غوكاسيان
تحويل النفايات العضوية إلى سماد - كومبوست
كيف تكون صديقا للبيئة
مقاطع مصورة
 
احدث المنشورات
البيئة العربية 9: التنمية المستدامة - تقرير أفد 2016
 
ان جميع مقالات ونصوص "البيئة والتنمية" تخضع لرخصة الحقوق الفكرية الخاصة بـ "المنشورات التقنية". يتوجب نسب المقال الى "البيئة والتنمية" . يحظر استخدام النصوص لأية غايات تجارية . يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص الأصلي. لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر يرجى الاتصال بادارة المجلة
©. All rights reserved, Al-Bia Wal-Tanmia and Technical Publications. Proper reference should appear with any contents used or quoted. No parts of the contents may be reproduced in any form by any electronic or mechanical means without permission. Use for commercial purposes should be licensed.