ظلَّت القناة الثانية من التلفزيون المصري، لمدة عشرين سنة متواصلة، تقدِّم برنامجاً أسبوعياً ذائع الصيت هو "عالم البحار". وكان مقدِّمه يختلف كلياً عن "نموذج" مقدِّمي البرامج الذين اعتاد المشاهدون رؤيتهم. كان شيخاً وقوراً، ذا لحية رمادية، لعينيه زرقة ماء البحر، لا يبتسم، ولا ينطق حرف الراء نطقاً سليماً بل أقرب إلى الواو. ولكن كانت له جاذبية خاصة تربط المشاهدين ببرنامجه، حيث كان حديثه الأسبوعي ينساب حيَّـاً على الهــواء في لغة بسيطة سليمة لا تستعصي على الصغار ويأنس لها الكبار. ووجد الجميع أنهم، أسبوعاً بعد أسبوع، يحصلون على وجبة علمية شهية تضيف إلى رصيدهم من المعلومات عن خبايا البحار والمحيطــات.
إنه رائـد علــم البحــار العربي، عاشق البحر الأحمر، الدكتور حامد عبد الفتَّاح جوهر (توفي عام 1992).
في العام 1929، حصل حامد جوهر على وظيفة معيد بقسم علم الحيوان في كلية العلوم بجامعة القاهرة. وكان مولعاً بالسباحة ورياضة التجذيف والقوارب الشراعية. ولكن لم يخطر بباله يوماً أن يتجه إلى دراسة البحر... حتى لعبت المصادفة دورها. فقد أراد أستاذه أن يكافئه على نجاحه الباهر في أبحاث الماجستير، فرتَّب له رحلةً إلى محطة أبحاث الأحياء المائية، في مدينة الغردقة المصرية المطلَّة على البحر الأحمر. أعجب جوهر بالمكان، وتكررت زياراته للمحطة التي كانت في ذلك الوقت تابعة لجامعة القاهرة. ولم يلبث أن طلب نقله ليعمل فيها. وهناك أقام إقامةً دائمة، ثم أصبح أول رئيس مصري للمحطة، وبدأ تفرُّغه لأبحاثه، التي تناولت الشعاب المرجانية والأسماك والرخويات وعرائس البحر (الأطوم أو بقر البحر).
وللدكتور جوهر مع الحيوان المعروف بعروس البحر حكاية طويلة. فقد قادته المصادفة وحدها إلى بعض عظامه متناثرةً على الشاطئ، فجمعها وعكف على دراستها، وأصرَّ على الحصول على نموذج حيٍّ منها. فصمم شبكة خاصة أمسكت بعروس بحر، وظل يدرسها لمدة 14 سنة. ونشرت المجلات العلمية العالمية نتائج أبحاثه ودراساته عن ذلك الحيوان البحري اللبون العجيب.
اشتهر الدكتور جوهر بتحـرِّي الدقة الشديدة في عمله. ويروي تلاميذه حكايات عنه، منها حكاية فك الحـوت. وملخصها أنه، عام 1949، علم باصطيــاد حوت ضخم في مدينة السويس، فأسرع إلى هناك، حيث وجد أن الحوت قد تم تقطيعه. فاحتجَّ على ذلك، وأخذ يجمع الحوت قطعةً قطعة. واكتشف أن أحد فكَّيه مفقود، فنشر إعلاناً في الصحف، ورصد مكافأة لمن يعيد الفك الضائع، ونجح في استعادته.
شارك الدكتور جوهر في تأسيس هيئات ومؤسسات وجمعيات علمية عربيةً وعالمية. وحصل عام 1973 على مقعد في "مجمع الخالدين" (مجمع اللغة العربية في القاهرة)، وقد بدأ اهتمامه باللغة الأم مبكراً، فكان في سنوات التنشئة يحفظ الشعر العربي القديم، إلى جانب أشعار أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، كما كان يهوى الموسيقى والتصوير الفوتوغرافي. وهو حاز درجة دكتوراه في العلوم، ونال جوائز وتقديرات مصرية وعالمية، وحظي بصداقة ملوك ورؤساء دول.
لكن التقدير الأكبر، في رأينا، هو مشاعر الحب التي كانت تحيط به أسبوعياً، مساء كل ثلثاء، حين كان يدخل إلى بيوتنا من خلال أجهزة التلفزيون، بادئاً برنامجه بتحيته التقليدية: "مساء الخير".
|