يعتبر بول موتيرد من أنشط جامعي النباتات في سورية ولبنان. وقد ألف موسوعة عن نباتات جبل العرب (La Flore du Djebel Druze) عام 1953، كما خصص لهذا الموقع أجزاء من موسوعة أخرى عن النباتات اللبنانية السورية (Nouvelle Flore du Liban et de la Syrie) خلال الفترة 1966 ـ 1983.
جبل العرب، أو جبل الدروز كما كان يعرف سابقاً، نال من الاهتمام ما يعبر عن خصوصيته البيئية. فمتوسط ارتفاعه 1000 متر فوق سطح البحر، وترتفع أعلى قمة فيه 1803 أمتار في موقع اللجينة. وتربته بركانية ناجمة عن حمم تتابعت على شكل صبّات ذات أعمار مختلفة. وليس في أي مكان منه صخور كلسية أو رسوبية، فهو يقع ضمن مجال بركاني واسع ومفتوح. وقد حدثت آخر الاندفاعات البركانية في الحقبة الرابعة.
وتشكل صخور البازلت البركانية قطعاً متماسطة لا تؤثر فيها التعرية إلا بحدود ضعيفة، وتغطيها طبقة ضحلة من التربة، أو أنها تكون معراة. وفي أماكن أخرى تكون الصخور متفككة، فتنتج تربة عميقة خصبة تزدهر فيها زراعات الحبوب الشتوية وسواها من المحاصيل الزراعية.
إن منشأ هذه الأراضي حديث جيولوجياً، فهو يعود إلى حقبة البليوسين (العصر الحديث القريب الحقبة الرابعة). وغياب الصوان الذي يعود الى الحقبة الحجرية القديمة، في جبل العرب الغني جداً بالأدوات الحجرية التي ترجع الى عهود أحدث، يدعو الى الاعتقاد بأن جزءاً من بازلته على الأقل ظهر بعد ظهور الانسان هناك.
والموقع الجغرافي، حيث يتقابل جبل العرب مع الانهدام الناتج عن انتهاء سلسلة جبل الشيخ (حرمون) وبداية نهوض جبال الجليل، يسمح بعبور مناخ متوسطي حقيقي يجعل من الهطول الثلجي أمراً متكرراً، ويتجاوز الهطول المطري 500 مليمتر سنوياً. وتحد البادية من الشمال والشرق والجنوب.
جامع المتوسط والصحراء
في دراسة حديثة أجريناها خلال الفترة 1997 ـ 2000، تمكنّا من جمع 512 نوعاً نباتياً في جبل العرب، تنتمي الى أكثر من 43 فصيلة، وتمثل احصائياً نحو 15 في المئة من أنواع الفلورا (الحياة النباتية) السورية وقرابة ثلث الفصائل. وما يجب الاشارة اليه أن التنوع النباتي في هذا الموقع، كما في الأجزاء الأخرى من الفلورا السورية، يبقى فقيراً بالأنواع الشجرية التي لم يتجاوز عددها 13 نوعاً، من أهمها الزعرور واللوز والإجاص والسنديان والبطم.
يعتبر المناخ السوري النموذج المتدهور والمتراجع من المناخ المتوسطي، فهو قريب الشبه بالمناخ الصحراوي الحقيقي، إذ يتميز بجفاف شديد في الهواء، وهطول قليل وغير منتظم، وتبدلات حرارية عالية، سواء على مدار العام أو في اليوم الواحد. إلا أنه يمتاز عن المناخ الصحراوي بأن الهطول أقل تذبذباً ويتجاوز 250 مليمتراً في السنة، لكنه لا يصل الى 500 مليمتر. كما أن التبدلات الحرارية أقل بروزاً عما هي في الصحراء، مع أنها عالية نسبياً. أما نباتياً، فيتميز هذا المناخ بانتشار الكثير مـن الأنواع الشائعة في السهوب، مثل القتاد الحلبي (Astragalus aleppicus) والمنشقـة العربية (Schismus arabicus) والسيلينة. ويتوافـر العديد مـن الأنواع التـي تنتشر فـي المنطقـة المتوسطية الداخلية مثل العذم (Adonis aestivalis) والقيصوم والسنيسلة. وتنتشر بعـض الأنـواع المتخصصـة والمميزة لهذه المنطقة، مثل الثوم (Alyssum szovitsianum) والبصل (Allium schuberti).
ويظهر تأثير المناخ المتوسطي عبر سهل طبرية في انتشار العديد من الأنواع النباتية المتوسطية، ومنها أنواع موجودة في الجليل مثل البيقية والنفل والجلبان.
ويحدد الخط المطري 200 ـ 300 ما يمكن أن نسميه القطاع السهبي من جبل العرب. فهو يتميز بنبات طبيعي خاص عما هو مألوف في المواقع الصحراوية، مثل السليسلة والشيح والقتاد والقيصوم الجبلي، اضافة الـى أنواع أخرى ذكرهـا العديد مـن الباحثين مثل بوست (1932) الـذي أشار الـى وجود النوعين الصحراويين من البصل (Allium sindijarense) والرمث أو الغضا (Haloxylon articulatum).
حين يدخل الانسان
مثلما يتميز جبل العرب بمواصفات مناخية وطبوغرافية خاصة، فإنه يتميز أيضاً بمجتمع سكاني نشط وفعال في تغيير المظهر الجيوفيزيائي للمنطقة. فهو يشهد اختلاطاً بين مجتمعات بشرية متنوعة يعكس كل منها جزءاً من الخواص البيئية الجغرافية للمنطقة. فالبادية والأغنام تطل من السفوح الشرقية. ومزارع المحاصيل الحقلية كالقمح والشعير تنتشر في سهوله الشرقية التي تشكل امتداداً لسهول حوران والقنيطرة.
أما في القطاع الأوسط من جبل العرب، فمزارع التفاح والكرز تشير الى طبيعة السكان الجبليين. وجدير بالذكر هنا أنه في نهاية ستينات القرن الماضي كرمت الحكومة السورية أحد أوائل مزارعي التفاح في جبل العرب، لترويضه الطبيعة الصخرية هناك وإنشائه أولى المزارع الشاسعة للتفاح. ولكن يبدو ذلك الآن كفاتحة لممارسات غير مستديمة.
لاحظ موتيرد عام 1953 أن جزءاً كبيراً من جبل العرب تحتله زراعات الحبوب، على شاكلة ما يجري في منطقة حوران، وزراعات حقلية أخرى تحتل مرتبة ثانوية، منها العدس والفول والحمص. اضافة الى ذلك، هناك زراعات نباتية متفرقة من الكرمة واللوز والمشمش وبعض أنواع الخضار.
وتبقى زراعة التفاح في الوقت الراهن الزراعة الشجرية الأكثر أهمية من حيث المساحة والعائد الاقتصادي. فلأجلها اندثرت أو كادت بعض الزراعات التقليدية، ولأجلها أيضاً تم استصلاح آلاف الهكتارات من الأراضي المحجرة التي كانت حتى عهد حديث تصنف ضمن أراضي الغابات المتدهورة. ونتيجة لهذا الاستثمار الزراعي المتزايد، اغتنت فلورا المنطقة بمزيد من الأنواع المصاحبة للزراعة، والتي جرت العادة على تسميتها بالأعشاب الضارة.
يتعرض جبل العرب لاحتطاب شديد، ولرعي جائر وغير منظم من القطعان التي تأتيه من البادية. ونجم عن ذلك تدهور فادح في بنى الأغطية النباتية الطبيعية، خصوصاً الغطاء الغابي الذي غدا ممثلاً في غالب الأنحاء بتجمعات شجرية متباعدة تتخللها بشكل نادر بعض الأشجار الشديدة التبعثر.
وقد سمحت الآليات الزراعية الحديثة بامتداد حقول الكرمة والتفاح رأسياً لتتربع على قمم الهضاب التي تشكل كتلة الجبل، محتلة ما كانت تشغله بقايا النمط الغابوي. وليس بعيداً أن يمتد ذلك الى ما تبقى على السفوح في سنوات مقبلة.
ومما يجب ألا يغيب عن البال أن مشاريع الاستثمار الزراعي والاستصلاح والري وتربية الأغنام بدلت كثيراً من مظاهر الحياة النباتية الطبيعية، وسمحت بما لم يستطع القيام به باحث مثل موتيرد حين ذكر في مقدمة موسوعة نباتات جبل العرب انه لم يتمكن من زيارة بعض المواقع بسبب وعورتها.
الدكتور موفق الشيخ علي استشاري في البيئة والموارد الطبيعية ومحاضر سابق في كلية العلوم بجامعة دمشق.
جبل العرب، الذي يعرف بـ "جبل الدروز" كان مهد الثورة الوطنية السورية على الانتداب الفرنسي عام 1925. فقد دعا الزعيم سلطان باشا الأطرس الى الثورة على الفرنسيين لاخراجهم والاعتراف بسورية دولة عربية مستقلة، وقيام حكومة شعبية ووضع قانون أساسي على مبدأ سيادة الأمة سيادة مطلقة، مع تأييد مبدأ الثورة الفرنسية وحقوق الانسان في الحربة والمساواة والإخاء.
هذه الصور ليوميات جبل العرب التقطها نجيب صعب أثناء زيارة عام 1980.