اختفى الوشق من جبال الألب السويسرية قبل أكثر من مئة سنة، وأعيد توطينه مؤخراً، لكنه ما زال عرضة لنيران الصيادين والمزارعين الذين يعتبرونه تهديداً لأغنامهم
مارك شولمان
بيس بيس بيس! تعال، بيس بيس بيس!
اذا كنت تظن البحث عن هرك في زوايا منزلك تحدياً يومياً، حاول أن تعثر على قريبه البعيد ذي الأذنين المستدقتين في غابة.
يعتقد أن هناك مئة وشق على الأكثر في جبال الألب السويسرية بأسرها، لذا فان اقتفاء أثره ليس سهلاً. وقد استنتجت رحلة نظمت مؤخراً للبحث عن الوشق في وادي سيمنتال بمرتفعات اقليم برن أن فرص مشاهدة هذا السنور المراوغ في موئله الطبيعي تقارب الصفر، بل ليس ما يضمن العثور على أثر لقدمه أو على برازه أو أي علامة طفيفة تدل على وجوده.
فما الفائدة من رحلة كهذه لا يتوقع منها شيء؟
"الرحلة لم تكن لرؤية الوشق"، قالت جوانا شوننبرغر، الخبيرة في الحيوانات المفترسة لدى برنامج الألب الأوروبي التابع للصندوق العالمي لحماية الطبيعة (WWF) والتي قادت مجموعة من هواة المشي في الطبيعة من العاصمة السويسرية برن الى موئل الوشق. وأضافت: "كان هدف الرحلة تعريف الناس، خصوصاً أهل المدينة، على نوعية الحياة البرية الكائنة على مسافة قريبة من بيوتهم، في جبال الألب. وأهم من ذلك، محاولة فهم الصراع بين الحياة البرية والمجتمعات المحلية".
زواج الأقارب
الوشق، مثل رفيقيه المفترسين الأوروبيين الدب البني والذئب، اختفى من جبال الألب السويسرية في أواخر القرن التاسع عشر، نتيجة النمو السكاني وتعرية الغابات لتحويلها الى أراض زراعية وقطع الأشجار لأغراض تجارية، ما أدى الى انتهاك حرمة موائله وقلل كثيراً من أعداد فريسته الرئيسية ظبي الرو. كما أنه تعرض للاضطهاد من المزارعين المحليين الذين وجدوا فيه تهديداً لمواشيهم، خصوصاً في المراعي المرتفعة. ويعتقد أن آخر وشق في جبال الألب السويسرية قتل عام 1894، ليس بعيداً كثيراً عن المكان الذي قصدناه في رحلتنا.
بعد نحو 100 سنة تغير الوضع. توقفت تعرية الغابات على نطاق واسع، وازداد الغطاء الغابي، واستعيدت أعداد الظباء بشكل كبير، ما أوجد الظروف البيئية الملائمة لعودة الوشق... وإن يكن مع قليل من المساعدة. وتفيد مجموعة اختصاصيي الهررة في الاتحاد الدولي لصون الطبيعة أنه تم نقل 14 وشقاً على الأقل في سبعينات القرن الماضي من جبال الكاربات في أوروبا الشرقية الى جبال الألب السويسرية، ما جعل سويسرا من أوائل البلدان الأوروبية التي تدعم اعادة اطلاق الوشق في البرية ومنحه الحماية القانونية. ويوجد في أراضيها حالياً نحو 100 وشق في مجموعتين رئيسيتين، واحدة في شمال غرب جبال الألب السويسرية وتشمل منطقة إنترلاكن، والأخرى في جبال جورا المطلة على بحيرة جنيف امتداداً الى فرنسا.
أكدت شوننبرغر أن "المجموعتين غير كافيتين، فهما صغيرتان ومعزولتان الى درجة لا تضمن لهما البقاء، كما ان انعدام التواصل بينهما يمكن أن يقلص المخزون الوراثي. لقد شاهدنا أوشاقاً تعاني مشاكل في الأوراك، وهذا عيب وراثي يدل على تزاوج الأقارب". ويرى الصندوق العالمي لحماية الطبيعة أن التوزع الحالي للوشق لا يعكس النطاق الذي يمكن أن يحتله في جبال الألب، فهو لا يتعدى 18 ألف كيلومتر مربع، أي أقل من 10 في المئة من كامل مساحة هذه الجبال البالغة 192 ألف كيلومتر مربع.
من أجل ربط مستوطنات الوشق، أعدت الحكومة السويسرية مشروعاً يدعمه الصندوق لاستعادة هذا النوع السنوري المعرض للانقراض في كامل المنطقة الألبية، خصوصاً محاولة ربط المجموعتين الألبيتين الرئيسيتين بين سويسرا وسلوفينيا. وكجزء من المشروع، تم نقل ستة أوشاق عام 2001 من الشمال الغربي الى مناطق ملائمة في الشرق. تقول شوننبرغر: "ان وصل المجموعتين ضروري لبقائهما، هذا أملنا الوحيد".
إعدام الوشق
لكن ليس جميع المعنيين متحمسين لوصل المجموعتين ولا لعودة هذا الحيوان المفترس. فهناك مجتمعات ريفية كثيرة في سويسرا ما زالت تعتبر الوشق، وبضعة ذئاب ودباً واحداً عبرت من ايطاليا الصيف الماضي، حيوانات ضارية تشكل خطراً على مواشيها ومصادر رزقها، على رغم أن غالبية حالات نفوق الأغنام كانت نتيجة هجمات الكلاب.
صادفنا في الطريق مزارعاً عجوزاً عبَّر لنا عن قلقه حيال سلامة أغنامه، محملاً "هذا المفترس" المسؤولية المباشرة عن انخفاض أعداد طرائد الصيد التي كانت في الماضي ترعى في الغابة المجاورة. وقال مشيراً الى حقله: "كنت اشاهد كثيراً من جداء الشاموا والغزلان تطوف هذا الوادي بحثاً من الكلأ، لكن منذ عاد الوشق لم نعد نرى أياً منها". وأضاف: "أنا لست مسروراً بالوشق، لكن أظن أننا مضطرون أن نعتاد عليه".
بعض المزارعين والصيادين يلومون دعاة المحافظة على الطبيعة لاعادة اطلاق الوشق في البرية. وقد تلقى باحثون في وادي سيمنتال تهديدات، وأتلفت معدات كانوا يستخدمونها في تقفي آثار الوشق. فهم ليسوا موضع ترحيب، ولا الحيوانات التي يحاولون دراستها.
انعكست هذه المواقف العدائية في رواية سويسرية نشرت مؤخراً بعنوان Luchs (أي الوشق بالألمانية)، تصف الصراع بين دعاة المحافظة على الطبيعة والصيادين المحليين وأصحاب قطعان الأغنام، من خلال رؤية شاب من المدينة يساعد باحثين يدرسون أوضاع الوشق في الطبيعة. قال مؤلف الرواية أورس مانهارت، الذي قرأ لنا فقرات من روايته أثناء رحلة البحث عن الوشق: "الرواية مبنية على خبرتي كباحث متطوع في فترة عثر خلالها على عدد من الأوشاق مقتولة بطلقات نارية أو مسممة في هذا الوادي بالذات". وأضاف مانهارت، الذي وجهت اليه تهديدات ومزقت إطارات سيارته عندما كان يراقب موائل الوشق في شتاء 2000: "كتبت هذه الرواية لأوضح حقيقة البغض الذي يتعرض له هذا الحيوان".
على رغم حماية الوشق في سويسرا وأوروبا، فان صيده يبقى السبب الرئيسي لنفوقه. وتؤكد سجلات حكومية صيد 49 وشقاً منذ سبعينات القرن الماضي. وقد أشارت شوننبرغر الى أن "العدد الحقيقي لا يقل عن أربعة أضعاف العدد المسجل، لأن حالات قتل كثيرة تمر من دون ان تسجل أو يحقق فيها. وفي العام 2006 انخفضت أعداد الوشق في مناطق رئيسية عدة بسبب القتل غير المشروع، ولم تتم إدانة أي قاتل".
العيش مع الوشق
لا يضمر جميع المزارعين الشر للوشق. كونراد إيغر، من زفيسمن في وادي سيمنتال، فقد 140 رأساً من أغنامه افترسها الوشق في السنوات الثلاث عشرة الماضية، ولم تعوضه الحكومة إلا ثلث خسائره. ومع ذلك لا يشعر بمرارة. قال لنا: "على رغم خسائري، أستطيع العيش مع بعض الأوشاق". وأضاف إيغر، الذي هو بعكس كثير من أقرانه المزارعين منفتح على الحوار وشارك في رحلتنا للبحث عن الوشق مساهماً بخبرته وتجربته: "لا يجوز لأحد أن يقتل الوشق، لكن في الوقت ذاته يجب ألا يعاد اطلاقه في البرية. وإذا وجدت أعداد كبيرة منه، فيجب القيام بعمل ما، يجب صيدها".
القلقون من الوشق ليسوا المزارعين وحدهم. قالت لنا معلمة مدرسة ابتدائية شاركت في الرحلة من بلدة غشتاد السياحية الألبية المجاورة انها ليست ضد اتخاذ تدابير صارمة اذا ثبت أن الوشق مشكلة. واضافت هذه المعلمة، وهي عضو في الصندوق العالمي لحماية الطبيعة منذ 30 سنة: "الأولاد يحبون أن يتعلموا عن الوشق، لكن أهاليهم ليسوا مسرورين، لأن كثيرين منهم يعارضون وجوده بسبب هجماته على أغنامهم. أنا أحاول أن أكون متوازنة عند التدريس، وأناقش الجوانب المختلفة للمشكلة. لكن، شخصياً، اذا وجدت أوشاق كثيرة وحدثت هجمات كثيرة فإني لا أعارض إطلاق النار عليها".
الفجوة بين المواقف تجاه الوشق ما زالت واسعة. وهذا ما جعل مؤسسات مثل الصندوق العالمي لحماية الطبيعة تعمل على تثقيف المجتمعات المحلية وإشراكها، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بادارة الوشق. وعبرت شوننبرغر عن قلقها قائلة: "ان عودة مفترسات كبيرة الى منطقتنا الكثيفة السكان تمثل تحدياً كبيراً. وامكانية النجاح الوحيدة تكمن في تحسيس السكان عموماً وتزويدهم بالمعلومات، خصوصاً المجتمعات المحلية التي تعيش ضمن موئل الوشق".
كانت احدى الوسائل التقليدية للتعاطي مع الهجمات على قطعان الماشية اقتناء كلاب الحراسة، لكن هذه الحماية تلاشت منذ زمن طويل مع اختفاء الوشق والذئب. وفي محاولة للعودة الى هذه الكلاب بعد تعاقب أجيال في سويسرا، يقدم الصندوق العالمي لحماية الطبيعة نصائح حول اختيار الأنواع المناسبة. ومن الوسائل الأخرى استعمال الأسيجة الكهربة التي تحمي القطعان من المفترسات أثناء وجودها في الحظائر. وهناك أيضاً مزيد من الرحلات الى بلاد الوشق، ضمن خطة مستمرة لتثقيف السويسريين من جميع المراتب الاجتماعية حول بيئتهم وحول جبال الألب والكائنات الحية التي تعيش فيها.
تقول شوننبرغر: "الوشق يحتاج الى دعم ليستعيد الموئل الذي فقده، كما يحتاج الى تسامحنا. على الناس أن يريدوه كي يستطيع البقاء هنا. ان مستقبل الوشق في جبال الألب يعتمد على التعاون وعلى حلول تتيح التعايش مع مفترسات كبيرة. وفي النهاية، التنوع الطبيعي سوف يعتمد على التنوع الثقافي".
مارك شولمان مدير تحرير WWF International في غلاند، سويسرا.
كادر
حقائق عن الألب والوشق
- جبال الألب من أكبر سلاسل الجبال وأعلاها في العالم. تغطي نحو 192 ألف كيلومتر مربع، وتمتد من النمسا وسلوفينيا شرقاً مروراً بايطاليا وسويسرا وليختنشتاين وألمانيا وصولاً الى فرنسا غرباً. ويعيش في أنحائها نحو 13 مليون نسمة في أكثر من 6000 تجمع سكاني.
- يقدر أن هناك نحو 8000 وشق في أنحاء اوروبا، منها 2900 في جبال الكاربات.
- الوشق الأوراسي (Lynx lynx) هو ثالث أضخم مفترس في أوروبا بعد الدب البني والذئب. ويزن الوشق البالغ ما بين 15 و28 كيلوغراماً، ويراوح طول جسمه بين 90 سنتيمتراً و110 سنتيمترات. والإناث أكبر حجماً من الذكور. وهناك أربعة أنواع من الوشق، لكن واحداً منها هو الوشق الإيبيري (Lynx pardinus) يوشكل على الانقراض، إذ لـم يبق منـه الا نحو 100 في البرية. والنوعان الآخران هما وشق كندا (Lynx canadensis) ووشق أميركا الشمالية (Lynx rufus).