بدأت مسيرة الحياة غير التقليدية للطفل رومولوس ويتاكر بهواية حماية الزواحف في براري الهند، ومن ثم تحول اهتمامه إلى حماية الغابات المطيرة، ليصبح بعد ذلك أحد أبرز العلماء الناشطين في هذا المجال على مستوى العالم. وهو يعكف على تأسيس شبكة محطات أبحاث لتعزيز الوعي والمعرفة بالغابات المطيرة في الهند، وإبراز أهمية مواردها المائية لملايين البشر. وقد نال على أعماله جائزة رولكس للمبادرات الطموحة
فيل ديكي
قد لا يتبادر إلى الذهن عند ذكر اسم رومولوس ويتاكر أن صاحبه، خبير الزواحف وصانع الأفلام الوثائقية المتميزة، هو مواطن هندي. بيد أن التركيبة الفريدة التي تجمع بين اسمه الأجنبي، وملامحه الاسكندينافية التي ورثها عن والدته السويدية، وطلاقته الاستثنائية في اللهجات الهندية، ودماثة أخلاقه، جعلت من هذا المواطن الهندي، الأميركي المولد، مناصراً استثنائياً للبيئة في بلد بعيد عن مسقط رأسه.
يقول ويتاكر (66 عاماً): ''دفاعي عن البيئة نابع من شغفي بأسرار الطبيعة اللامتناهية، والتساؤلات الكثيرة التي تثيرها سلوكيات المخلوقات، ورغبتي المطلقة في حماية البيئة من الأعمال المدمرة التي يشهدها العالم اليوم. ووجودي في أحضان الطبيعة يمنحني إحساساً عارماً بالحرية، فأنا لست مقيداً بشروط العمل التقليدي. الحياة هنا أشبه بنهر يحملني ويجري بي بانسيابية وهدوء، ولطالما تقبلت الأشياء التي صادفتني ببساطة ومن دون أي تعقيد".
يخفي ويتاكر وراء مظهره الهادئ أفكاراً متجددة وخططاً مستمرة لمشاريع يطمح إلى تحقيقها من أجل حماية الحياة البرية والغابات والقاطنين فيها. وطموحه الذي أهله باحدى جوائز رولكس للمبادرات الطموحة عام 2008 هو إنشاء شبكة متكاملة من محطات أبحاث الغابات المطيرة في أنحاء الهند. يقول: ''لازمت فكرة إنشاء هذه الشبكة تفكيري لسنوات طويلة، ولكن نقص الموارد المالية حال دون تطبيقها. وخلال السنوات الأخيرة، بدأت الظروف الملائمة لانطلاق المشروع تتبلور، إذ تركت لي والدتي بعد وفاتها مبلغاً من المال كان كافياً لشراء قطعة الأرض هذه في أغومبي (جنوب الهند)، التي كنا تناقشنا حولها قبل رحيلها. كما ساهمت جائزة ''ويتلي للطبيعة'' في تمكيننا من إنشاء محطة أغومبي لأبحاث الغابة المطيرة وانطلاق العمل فيها".
هاوي الأفاعي
الصبر الذي تحلّت به والدة الفتى تجاه شغفه بالأفاعي في شمال ولاية نيويورك حيث ولد وترعرع، ومن ثم الأفاعي الأكثر سمّية في الهند، كان منطلقاً حقيقياً لتخصصه لاحقاً في المجال الواسع لعلم الزواحف. وألّف ويتاكر ثمانية كتب وأكثر من 150 مقالة علمية، وشغل العديد من المناصب العليا في مجال تخصصه. وتعدّ أفلامه الوثائقية البالغ عددها 23 فيلماً، ومنها ''ملك الكوبرا'' الذي أنتجته ''ناشيونال جيوغرافيك''، مصدر إلهام لكثيرين.
في أعقاب الحظر الدولي على تجارة جلود الأفاعي، أطلق ويتاكر مشروعاً رائداً عام 1984 للمساهمة في تغيير أسلوب حياة أبناء شعب ''إيرولا'' الأصليين في منطقة تاميل نادو، الذين كانوا يعتمدون على صيد الأفاعي والمتاجرة بجلودها. وأصبح سكان هذه المنطقة يعملون على جمع سم الأفاعي لإنتاج الأمصال المضادة للسموم.
أدرك ويتاكر منذ زمن طويل أن الأفاعي وغيرها من الأنواع الحية غير قادرة على البقاء خارج بيئتها الطبيعية. وعزز حياته المهنية العلمية من خلال مساهماته الفعالة في حماية البيئة. وقال: ''يحرص كثيرون منا على العناية بحيواناتهم الصغيرة المميزة، ثم لا نلبث أن ندرك حاجة هذا الحيوان إلى موطنه الأصلي. وأرى الآن أن من المهم جداً أن نضع خططاً مدروسة للتنمية البيئية يشارك فيها الناس. واتضحت لي مؤخراً إمكانية الاستفادة من هذه الخطط في تأمين موارد جديدة للمياه".
غابات تنبع منها الأنهار
لطالما عانت الهند من مواسم الجفاف والمجاعات والفيضانات، ومع ذلك واجهت الكثير من تحديات إنتاج الغذاء بنجاح. ولكن ظاهرة نقص المياه التي تعانيها اليوم تعد أشد ضخامة وخطورة من المشاكل التي واجهتها سابقاً. وتشكل عمليات القطع الجائر لأشجار الغابات والمشاريع غير المدروسة لإنشاء السدود أسباباً رئيسية لجفاف الأنهار واستهلاك المياه الجوفية بسرعة تفوق قدرتها على التجدد، إضافة إلى التلوث الذي يهدد معظم مصادر مياه الشرب. وهناك مخاطر أخرى تهدد مصادر المياه، مثل التغيرات المناخية التي تستوجب إجراء دراسة معمقة لإيجاد حلول سريعة وفعالة.
المفارقة في الأمر أن مياه الأمطار التي يسعى ويتاكر للحفاظ عليها تعتبر من أكبر المعوقات التي تواجه أبحاث الحماية البيئية في الهند. فعلى رغم شهرة الغابات المطيرة كأغنى المناطق بالتنوع الحيوي في أنحاء العالم، فإن المعرفة السائدة عنها وعن أنواع الكائنات فيها ما زالت محدودة. ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى الصعوبة البالغة في إجراء الأبحاث أثناء هطول الأمطار الموسمية، التي تعتبر من أكثر الظواهر الطبيعية تميزاً في هذه الغابات وذات تأثير مباشر على حياة قاطنيها. ففي أغومبي، حيث التقط ويتاكر أول أفعى من نوع ''ملك الكوبرا'' عام 1971، تقدّر مستويات الهطول السنوية بما يقارب 10 أمتار، مما يعرض المتواجدين تحت المطر لأخطار أسراب الطفيليات وبلل الثياب والخيام، بالإضافة إلى الأعطال التي تصيب معدات التصوير والاتصال والإحصاء.
وتعد قاعدة ويتاكر التي تم تشييدها عام 2005 في أغومبي مركزاً متكاملاً للأبحاث وحماية البيئة والتثقيف البيئي، وأولى المحطات السبع التي ستربط بين المناطق الرئيسية للغابات المطيرة في أنحاء الهند. ويعتبر نهر سيتا نادي، الذي ينبع قرب محطة أغومبي، محط أنظار ويتاكر وفريق عمله، الذين وضعوا خطة صغيرة طموحة لتنظيف مجرى النهر وإصلاحه. وتتكون الخطة من ثلاث نقاط رئيسية: تقييم المشكلة، وإشراك الناس في العمل، وتطبيق الخطة بشكل عملي وفعال. ويشدد ويتاكر على الأهمية البالغة للغابات المطيرة في تكوين مصادر المياه، قائلاً: ''تعتبر هذه الغابات المنبع الرئيسي لجميع الأنهار الكبرى في جنوب وشمال شرق الهند. وتوفر أنهار سلسلة جبال غاتس الغربية، الواقعة في الجنوب، موارد المياه لما يقارب 350 إلى 400 مليون نسمة، أي نحو ثلث سكان الهند".
طموحات الشباب
تضم محطة أغومبي منشآت عمل وأماكن سكن، لتمكينها من العمل أثناء هطول الأمطار الموسمية وتحقيق الاكتفاء الذاتي في توليد الطاقة المتجددة. ويوفر موقعها الاستراتيجي المجاور لمتنزه وطني ومحمية للحياة البرية فرصة وصول العلماء الميدانيين إلى الغابة بسهولة. وقد استضافت القاعدة عشرات الباحثين الهنود والصحافيين وهواة الطبيعة. وتتخطى مهمة المحطة حدود الدراسة والأبحاث، فهي تعتبر منصة حقيقية لحماية البيئة المحلية، بما في ذلك الاستغلال المستدام لمنتجات الغابة والأعشاب الطبية. كما نظمت ندوات تثقيفية حول الغابة للمئات من طلاب المدارس. يقول ويتاكر: ''يتردد الأطفال في الدخول إلى الغابة في بادئ الأمر، وسرعان ما تنسيهم الأشياء الفاتنة التي نريهم إياها هذا التردد والخوف".
ستوفر شبكة المحطات السبع كماً كبيراً من المعلومات الحيوية المستقاة من اكتشافات زملاء ويتاكر في العقد الماضي لما يفوق 100 نوع من الضفادع، إضافة الى أنواع السرطان (السلطعون) التي تعيش في الأشجار. وتتيح الشبكة فرصة التبادل المباشر للخبرات والأبحاث، وإمكان إنشاء قاعدة بيانات شاملة عن التنوع الحيوي، وبرامج موسعة للتعليم المتنقل. وسيتم إنشاء خمس من هذه المحطات في الولايات الممتدة على سلسة جبال غاتس الغربية، وتنشأ محطة سادسة في ولاية أسام الواقعة في أقصى الشمال الشرقي والتي تعد ملاذاً حيوياً لأعداد كبيرة من الطيور المهاجرة والثدييات المهددة بالانقراض. وتقع المحطة السابعة في أرخبيل أندامان ونيكوبار الاستوائي المكون من 350 جزيرة في خليج البنغال، على بعد 1200 كيلومتر من البر الهندي.
ويؤكد ويتاكر، الذي سيستخدم جائزة ''رولكس'' في إتمام المحطات وتزويدها بأجهزة آلية للرصد الجوي: ''هناك علاقة وثيقة بين التغيرات المناخية ومستقبل المصادر المائية، الأمر الذي يتطلب منّا الشروع فوراً في مراقبة تلك التغيرات وانعكاساتها".
ويجمع أصدقاؤه على قدرته على تنفيذ المشاريع البيئية. ويقول ثيودور باسكاران، مراقب الحياة البرية والمدير السابق لمصلحة البريد في تاميل نادو: ''يتمتع رومولوس بحماسة بالغة لحماية البيئة وبشخصية فذة في العمل الميداني. وله في بناء المؤسسات عزيمة صلبة لا تثنيها العوائق التي تعترض طريق عمله".
ويقول ويتاكر، الذي يثق بتطلعات جيل الشباب كما يثق بنفسه: ''نحرص على استقدام الشباب إلى الغابة لإطلاعهم على الأعمال التي نقوم بها وأهميتها. فقد يكون من الصعب تغيير مواقف الكبار، أما الشباب فيسهل عليهم فهم حقيقة أن ما نفعله للغابة نفعله لأنفسنا''.