بيار أبي سعد
ليس ببعيد عن جبيل، أعرق مدن التاريخ، اكتشفت روائع طبيعية عبارة عن أسماك حفظها الزمن. فأضافت الى المدينة شهرة عالمية لأن بينها أنواعاً من المتحجرات يندر مثيلها في العالم. فعلى بعد بضعة كيلومترات من المدينة تقع بلدات حجولا وحاقل والنمورة وساحل علما، أربع مواقع اختزنت أسماكاً وقشريات ونباتات يعود عهدها الى مئة مليون سنة.
قبل نحو 220 مليون سنة لم يكن على وجه الأرض سوى قارة واحدة تدعى "بانجيا" محاطة ببحر واحد شاسع. ثم ظهر بحر التيتس منذ نحو 180 مليون سنة، ففصل القارة تدريجياً الى قسمين: قارة لوراسيا وغواندوانالاند في الجنوب. غمر هذا البحر لبنان والمنطقة المحيطة به بعمق يقارب 200 متر منذ نحو 100 مليون سنة، أي الفترة الطبشورية في العصر الجيولوجي الثاني، حيث عاشت تلك الأسماك وتحجرت. ومنذ نحو 40 مليون سنة تكونت الجبال اللبنانية نتيجة تحركات باطن الارض، وانحسر مستوى المياه، فبقيت الأسماك في جوف الجبال على علو يراوح بين 400 متر و850 متراً عن سطح البحر.
كيف تتحجر الاسماك؟ بعد تساقط كمية كبيرة من الأمطار العذبة على الأرض، وصولاً الى البحر، تنمو على وجه المياه حيوانات ونباتات مجهرية تدعى عوالق، فتستهلك الاوكسيجين الموجود في المياه وتفرز سموماً تؤدي الى موت الكائنات الحية. تطفو هذه الكائنات على وجه المياه، ثم تنحدر الى قاع البحر بعد أن تتسرب منها الغازات. ولكي تتحجر السمكة، يجب أن تغطيها الرواسب بسرعة مما يحول دون تفككها واهترائها. وتندمج هذه الترسبات بفعل تراكم وزنها، وتصبح صخراً كلسياً صلباً تبقى السمكة محفوظة داخله. وبحسب سرعة الطمر ونوعية الترسبات يمكن قياس مستوى الحفظ، الذي يعد في لبنان الأفضل بين الأسماك المتحجرة في العالم.
ذكرت هذه المتحجرات للمرة الاولى في القرن الرابع الميلادي، بكلام أسقف فلسطين اوزيب دوسيزاري الذي شاهد بأم عينه أسماكاً جميلة محفوظة جيداً على الصخور في أعالي جبال لبنان، فاعتبرها شاهداً على طوفان نوح. ثم وردت في مذكرات دوجوانفيل في القرن الثالث عشر، وهو مرافق الملك لويس التاسع خلال الحملات الصليبية، اذ أهديت الى الملك سمكة متحجرة أثناء وجوده في صيدا، فأبدى اعجاباً كبيراً بها. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر توالت البعثات الاجنبية، من فرنسية وألمانية وايطالية وانكليزية وغيرها، للتنقيب عن الأسماك المتحجرة.
ولسنوات كثيرة كان اقتلاع المتحجرات يتم بطرق استهتارية ومدمرة، الى حد استعمال الديناميت في تلك المواقع النادرة التي سميت "مقالع السمك". أما اليوم فباتت العمليات أكثر خضوعاً للاشراف العلمي. وتعمل في المواقع عائلات تتولى عملية التنقيب، ومنها عائلة أبي سعد التي امتهنت هذه الحرفة في حاقل منذ ثلاثة أجيال. وأنتمي مع اخوتي الثلاثة جورج وجوزف وألبير الى الجيل الثالث.
تتم عملية الحفر يدوياً، فتستعمل أدوات كالرفش والمعول والمطرقة والازميل، وأدوات في منتهى الدقة، للحفاظ قدر المستطاع على القيمة العلمية والجمالية للمتحجرات. للخبرة دور أساسي، وللحظ دور مساعد. ونستطيع اكتشاف المتحجرات من خلال بعض العلامات والنتوءات. قد نعمل أياماً دون استخراج أية متحجرة، وقد نعيد بضربة مطرقة إحياء 100 مليون سنة. وتتابع العائلة عملية الحفر لمدة سبعة أشهر تقريباً كل سنة، باشراف المديرية العامة للآثار وبالتعاون مع جامعات ومتاحف محلية وعالمية، منها الجامعة اللبنانية، والجامعة الأميركية في بيروت وجامعة كلود برنار ليون في فرنسا ومتحف العلوم الطبيعية في كل من باريس ولندن وميلانو ونيويورك. وقد أسست جمعية "ذاكرة الزمن" معرضاً مجانياً في المنطقة الاثرية في جبيل، حيث تعرض هذه المتحجرات مما يتيح للزوار مشاهدتها وللعلماء دراستها.
تحتوي هذه المواقع مئات الأنواع من الكائنات البحرية التي انقرض قسم كبير منها، وبعضها تغير بشكل كبير مثل بقر البحر والقرش والسمك الطائر والسردين والقريدس (الروبيان أو الجمبري) والأخطبوط ونجم البحر.
ولهذه المتحجرات أهمية علمية كبيرة. فهي تمتاز بتعدد أنواعها، بحيث نجد بينها أكثر من 10 في المئة من أنواع الأسماك المتحجرة في العالم. ودرجة حفظها تعد الأفضل عالمياً. ودراستها سهلة نظراً لوجودها في صخر كلسي يسهّل عملية تحضيرها. وهي تعتبر مرجعاً مهماً للحياة في البحر المتوسط منذ 100 مليون سنة.
هذه المتحجرات شاهد أساسي لتاريخ الحياة على الأرض. وعلى الدولة والمواطنين حمايتها وعدم تدمير مواقعها، كما حصل في ساحل علما حيث لم يعد لموقع الأسماك المتحجرة وجود. |