الوشق الايبيري والغزال البربري والنسر الامبراطوري حيوانات مهددة بالانقراض تقطن غابات الفلين في غرب حوض المتوسط. لكن صناعة سدادات القناني البلاستيكية والمعدنية تفقد الفلين قيمته الاقتصادية وتهدد غاباته بالزوال ومعها الأنواع النادرة التي تعيش في أرجائها
تانيا بيترسن وشانتال مينار
صناعة الفلين حيوية في حوض البحر المتوسط حيث ينتج أكثر من 99 في المئة من فلين العالم. نحو 340 ألف طن من الفلين تنتج سنوياً من غابات مساحتها 2,2 مليون هكتار في سبعة بلدان متوسطية، هي البرتغال واسبانيا وايطاليا وفرنسا والجزائر والمغرب وتونس. وتحتضن البرتغال ثلث أشجار الفلين في العالم، وتعتبر أكبر منتج ومصدّر لهذه المادة بمعدل 185 ألف طن سنوياً. وتنتج تونس نحو 9000 طن من الفلين من غابات مساحتها 78 ألف هكتار.
وخلافاً لما يشاع، لا تقطع أي شجرة للحصول على الفلين، بل ان استخراجه هو من أكثر أعمال الحصاد رفقاً بالبيئة. ويأتي الفلين من نوع من أشجار السنديان دائم الاخضرار يدعى Quercus suber متوطن في غرب البحر المتوسط. ومنذ أن يصبح عمر شجرة الفلين 12 سنة، يمكن حصاد الفلين من لحائها كل 9 ـ 12 سنة، علماً أن متوسط عمر أشجار الفلين هو 175 ـ 250 سنة، ويعيش بعضها 600 سنة.
وحصاد الفلين يحتاج الى مهارة عالية، حتى أن لفؤوسه تصميماً خاصاً. يُحدث الحاصد جروحاً دقيقة في اللحاء، ثم ينزعه عن الشجرة، في عملية شبيهة بنزع قشرة الموزة. ويستطيع عامل متمرس أن يجمع 600 كيلوغرام من الفلين كل يوم. وبعد الحصاد تُدمغ الشجرة برقم كبير أبيض يشير الى تاريخ قَشْرها، وتترك مدة تسع سنوات أو أكثر حتى ينمو لحاؤها الفليني مجدداً، ليبدأ حصاد آخر.
يستأثر انتاج سدادات القناني بأهم جزء من سوق الفلين. وتصنع كل سنة أكثر من 15 بليون سدادة فلينية لتلبية سوق الأشربة العالمية، أي ما يعادل 80 في المئة من حصاد الفلين. أما المنتجات الأخرى، مثل "البلاط" والألواح والمواد العازلة واللوازم الصناعية، فتصنع غالباً من إعادة تدوير الفلين المتخلف عن صنع السدادات. والفلين خفيف الوزن، صامد للماء، عازل جيد، وله صفات فريدة من حيث المرونة والمطاوعة والانضغاطية. وهو، فوق كل ذلك، قابل لاعادة التدوير ويتحلل بيولوجياً.
ملاذ أنواع مهددة
غابات الفلين هي مصدر رزق أناس كثيرين في حوض البحر المتوسط، وليس فقط أولئك الذين يعملون في صناعة الفلين. فالمواشي ترعى تحت أشجاره. والمزارعون يجنون العسل من القفران التي يضعونها في غاباته، ويستعملون بلوط الفلين علفاً للحيوانات. وثمار التوت والعليق والعنبيات التي تنمو في ظلال أشجار الفلين تعطي غلالاً محلية أخرى. وغابات الفلين هي نموذج مثالي لنظام غابيّ عضوي مستدام، حيث يستغل المزارعون الموارد الطبيعية حولهم محافظين على القيم البيئية الرفيعة للنظام الايكولوجي.
وتؤوي غابات الفلين تشكيلة وافرة من الكائنات البرية، بما فيها أنواع معرضة للانقراض، مثل الوشق الايبيري (Lynx pardinus) وهـو أندر القطط البرية الكبيرة فــي العالم، والنسر الامبراطوري الايبيري (Aquila heliaca) في اسبانيا والبرتغال، والغزال البربري (Cervus elaphus barbarus) في تونس. والى ذلك، تمضي كل طيور الكركي (crane) الاوروبية فصل الشتاء في غابات الفلين في اسبانيا والبرتغال.
أضرار الزراعات البديلة
حصاد الفلين ممارسة قديمة في حوض البحر المتوسط تعود الى ألف سنة على الأقل. لكن صنع السدادات البلاستيكية والمعدنية بدلاً من سدادات الفلين الطبيعي يعرض للخطر غابات الفلين والمزارعين والكائنات البرية التي تعتمد عليها. وقد أفادت دراسة للجمعية الملكية لحماية الطيور في بريطانيا (RSPB) عام 2000 أن السدادات البلاستيكية اقتطعت خلال السنوات الخمس السابقة 5 الى 7 في المئة من السوق العالمية التي تراوح بين 500 و800 مليون جنيه (780 ـ 1250 مليون دولار). واذا استمر معدل النمو هذا، فان حصة السدادات البلاستيكية لن تقل عن 15 في المئة من السوق بحلول سنة 2015 وقد تسبب انخفاضاً في سعر الفلين يصل الى 25 في المئة، مما قد يضطر مزارعي الفلين الى وقف عملهم أو التحول الى زراعات أخرى. وعلى كل حال، فان احتمالات تدمير غابات أشجار الفلين وضياع الكائنات البرية التي تعتمد عليها كبيرة.
في أماكن كثيرة، استبدلت أشجار الفلين بأنواع من الزراعات والأشجار الأقل رأفة بالبيئة. وتحاول جماعات محلية ايجاد مصادر دخل بديلة مستفيدة من اعانات ضارة بالبيئة يقدمها الاتحاد الاوروبي، حتى تحولت مساحات كبيرة من الاراضي التي كانت تغطيها الغابات المتوسطية الى زراعات أخرى. ففي المغرب، مثلاً، تم استبدال أحراج فلّين قيمة جداً في غابة المعمورة الشهيرة شمال غرب البلاد بأشجار السنط (الأكاسيا) والاوكالبتوس القصيرة الأجل وذات الفائدة الاقتصادية والاجتماعية الضئيلة. ويؤدي تدهور الاراضي وتحويلها الى زراعات دخيلة ومكثفة، خصوصاً في شمال افريقيا، الى انهيار اقتصادات المجتمعات المحلية الريفية وانتشار الفقر وعدم الاستقرار الاجتماعي. ومن نتائجه تصحر المناطق الريفية، والهجرة منها الى المدن داخل البلاد وخارجها، وازدياد البطالة على المستويين الوطني والاقليمي.
المعادلة بسيطة: من دون طلب مستمر على الفلين تفقد الغابات قيمتها الاقتصادية، مما يعرض بقاءها للخطر. ويتفاقم هذا الوضع مع نزوح أهالي الريف، وخصوصاً الأجيال الناشئة. ويحذر الصندوق العالمي للطبيعة من أن غابات الفلين ستفقد قيمتها الاقتصادية وسيتم التخلي عنها ما لم يكن هناك طلب مستمر على سدادات القناني الفلينية. وعند ابعاد حيوانات الرعي عن الغابات، ينمو العشب عالياً تحت الأشجار، وتغزوها شجيرات خفيضة، مما يعرضها للحرائق. وتشكل حرائق الغابات خطراً كبيراً في منطقة البحر المتوسط، حيث تدمر كل سنة ما بين 600 و800 ألف هكتار من الغابات. وغزو الشجيرات الخفيضة يؤدي أيضاً الى تراجع التنوع البيولوجي وخسارة موائل الأنواع النباتية والحيوانية المعرضة للانقراض. فعلى سبيل المثال، عندما تنمو المراعي أكثر من المعتاد، ترحل عنها الأرانب التي يتغذى عليها الوشق الايبيري. واضافة الى ذلك، فان استزراع الغابات بأشجار الاوكالبتوس والصنوبر يجعلها وقوداً سهلاً للحرائق، بخلاف أشجار الفلين المقاومة للنار.
خسارة غابات الفلين كارثة للنظم الايكولوجية في المنطقة. "تصوروا الصحراء زاحفة الى البرتغال ومن ثم الى اوروبا الشمالية"، تقول كلارا لانديرو المسؤولة في مشروع "الحزام الأخضر ضد التصحر" في البرتغال، مضيفة: "هذا يحدث في جميع مناطق البحر المتوسط، حيث تستبدل غابات أصيلة بأنواع غير محلية تمتص الماء من التربة وتستهلك جميع المغذيات من دون أن تعطي شيئاً في المقابل، لأنها ليست الأشجار التي تناسب المناخ والظروف المحلية. واذا لم نبادر الى العمل الآن فاننا نواجه خطر زحف الصحراء الى عقر دارنا".
تانيا بيترسن منتجة برامج تلفزيونية للصندوق العالمي للطبيعة (WWF)، وشانتال مينار مسؤولة الاتصالات في برنامج البحر المتوسط التابع للصندوق.
كادر
شبكة أمان لمكافحة التصحر
يعمل الصندوق العالمي للطبيعة (WWF) مع منظمات أهلية محلية لادارة غابات الفلين بشكل مستدام في حوض البحر المتوسط. هذه الغابات هي "الخط الأمامي" في جهود الصندوق لمكافحة التصحر، وتشكل جزءاً من مشروع لاقامة شبكة من المناطق المحمية تصد زحف الصحراء، حيث يتم تعزيز الممارسات المستدامة التي تدر دخلاً. وحصاد الفلين أحد الأمثلة على هذه الممارسات.