كريستو بارس
"هأنذا في رأس الشمال، في آخر الدنيا". هذا ما دونه الكاهن والعالم فرنسيسكو نيغري في يومياته عام 1664. الرحلة التي قطعها على صهوة جواد وفي زلاجات وزوارق صيد استهلكت وقتاً طويلاً وصبراً جميلاً. لكن التصميم على بلوغ تلك البقعة، التي اعتبرها المكان الأكثر اثارة في العالم، لم يكن ليقاوم. أما اليوم، بعد ثلاثة قرون ونصف قرن، فيمكن زيارة المكان بسرعة وراحة أكبر.
السهل الواسع على منحدر رأس الشمال، الذي يعلو 307 أمتار عن سطح البحر، هو الزاوية الشمالية القصوى في اوروبا. وقد شكل هذا المنحدر المهيب معلماً ملاحياً للبحارة منذ زمن بعيد.
حتى أواخر سبعينات القرن الماضي، تميز رأس الشمال (Nordkapp) في النروج بانتشار منصات ضخمة لتجفيف الأسماك. واليوم باتت هذه الصناعة تعتمد على السمك المجلد والمملح، الذي ترسل كميات كبيرة منه من رأس الشمال الى مرافق التجفيف على الساحل الغربي، ومن هناك تصدر الى بلدان أوروبا وأميركا الجنوبية. ويضم أسطول الصيد في رأس الشمال قرابة 170 زورقاً تصطاد نحو 40 مليون كيلوغرام من الأسماك سنوياً.
حياة محفوفة بالخطر
في غابر الأيام، كان سكان رأس الشمال يقيمون في أكواخ من الأعشاب، ويعتاشون أساساً من صيد الحيوانات والأسماك، ويتاجرون مع المسافرين شرقاً وغرباً. وعندما أصبحت صناعة الأسماك مجدية تجارياً في العصور الوسطى، انتقل الناس للعيش معاً في قرى صغيرة قريبة من مواقع الصيد، وبلغوا مناطق تتعرض لأقسى الأحوال المناخية. كانت حياة خطرة وشاقة، وكان رجل من كل أربعة رجال يموت في البحر، ويتولى جيرانه وأقرباؤه اعالة أسرته.
في القرن التاسع عشر بنى الاقطاعيون أعداداً كبيرة من الأكواخ على أراضيهم الساحلية، وأجَّروها للصيادين، فكانوا ينامون فيها ويحضرون طعامهم وينظفون ملابسهم ويصلحون شباكهم. وكانوا يبيعون صيدهم الى مالكي الأراضي الذين يتولون تجفيفه وبيعه الى التجار.
وكانت أنسب الظروف المناخية لتجفيف الأسماك عند قدوم سمك القد الى الشاطئ ليضع بيضه او ليتغذى خلال فصل الشتاء البارد من كانون الثاني (يناير) الى نيسان (ابريل). وكان القد المصاد ينظف على الفور ويعلق في الهواء الطلق ليجف على منصات التجفيف.
من سطح القمر الى الجزر الجبلية
في أقصى الشمال الشرقي تقع شبه جزيرة فارانغر. ومن غابات البتولا والمستنقعات في محمية فارانغربوتن، تمتد الطريق متعرجة في أرض مقفرة بمحاذاة أجراف الطيور الشاهقة ومواقع صيد الأسماك. وفي أقصى نقطة شرقاً بين فاردو وهامنينغبيرغ، تتجه الطريق شمالاً في أرض تشبه سطح القمر بين منحدرات مثلمة الى اولتيما ثول، "نهاية الأرض"، لتلتقي ببحر بارنتس الشديد البرودة. في هذه القفار القطبية لا توجد ثغرة بين الجبال والبحر. وفي الصيف القطبي القصير، يحل الدفء القادم من سيبيريا مكان ضباب المحيط الجليدي، والنهار لا ينتهي. وفي الليل الشتائي القطبي تهب عواصف عاتية.
مخزونات الأسماك على الشاطئ الشديد البرودة وموجات الهجرة البشرية والتجارة حولت فارانغر الى مصهر قطبي للشعوب والثقافات. وقربها من روسيا والهجرة الفنلندية وعادات شعب السامي الأصلي كونت نسيجاً رائعاً من الثقافات والتاريخ. فارانغر القطبية، بمناظرها الطبيعية ومستوطناتها الفريدة وشفقها القطبي وسمائها اللامتناهية وأفقها الواسع وشعبها الودود، تجربة من خارج المألوف.
وفي أقصى الشمال الغربي تمتد مجموعة جزر لوفوتن كجدار من الجبال في البحر. جزر شاهقة وخلجان صغيرة محمية وامتدادات ومساحات عذراء واسعة.
السكان الأوائل قدموا اليها منذ نحو 6000 سنة، وعاشوا على صيد الأسماك والحيوانات. وكانت الجزر في ذلك الوقت مكسوة كلها بغابات مديدة من أشجار الصنوبر والبتولا، تسرح فيها الدببة وأيائل الرنة والوشق والقندس. وكان البحر يعج بالأسماك والفقم والحيتان. وزرعت الحبوب فيها منذ 4000 سنة.
شكل سمك القدّ المجفف السلعة الرئيسية في تجارة السكان منذ مئات السنين. وكان يصدر الى أنحاء أوروبا، وما زالت ايطاليا السوق الأهم للسمك المقدد العالي الجودة الآتي من لوفوتن.
تزخر جزر لوفوتن بتشكيلة من طيور الغابات والمستنقعات والبراري والبحار، وأنواع كثيرة مهاجرة تمر بها كل ربيع وخريف. ويزدهر النسر الأبيض الذيل حيث احدى أكبر تجمعاته في العالم. وتضج بعض المستوطنات بمئات آلاف الطيور البحرية التي يمكن سماعها ورؤيتها تشارك في اوركسترا من الأصوات والألوان. وتشاهد في مياهها الفقم والحيتان القاتلة.
رعيان الأيائل
حتى في هذه الأصقاع القاحلة شبه القطبية يفاجأ المرء بوفرة الحياة النباتية والحيوانية. فقد تم تسجيل أكثر من 200 نوع من النباتات، ومنها أنواع نادرة جداً مثل الاوركيديا الصغيرة Chamorchis alpina التي لا تعيش إلا في المناطق القطبية الشمالية. وهناك الكثير من الفريز (الفراولة) والتوت البري الجبلي وتوت العليق الأسود والعنبيات. وفي الصيف "يغوص" المرء وسط أعشاب يصل ارتفاعها حتى الركبة في واحات هادئة، ويجمع الثوم البري، ويتمتع بمروج زهرة الطرليوس (globeflower) الصفراء الذهبية. ولا توجد غابات كثيفة، فحزام الغابات يمتد على بعد 150 كيلومتراً جنوباً من رأس الشمال.
على طول الأجراف الصخرية الشاهقة تعيش أنواع كثيرة من الطيور البحرية. بعضها تأتي لتحتضن بيضها، ثم تمضي بقية أيام السنة باحثة عن طعام في أعالي البحار. وتوجد في محمية جيسفيرستابان الطبيعية احدى أكبر الملاذات الصخرية للطيور، حيث يعشش البفن والموسوي المنقار والنورس والأطيش والغاق والغلموت وعقاب البحر. أما في الجبال، فان الطائر السائد هو الطهيوج الجبلي(Lugupus mutu).
يزخر البحر أيضاً بثروة حيوانية. فهناك الحيتان القاتلة (اوركا) والحيتان البيضاء وحيتان المنك والدلافين وخنازير البحر. كما توجد الفقمة الرمادية ذات الوجه الشبيه بوجه الحصان والتي تعتبر الأكثر تميزاً بين أنواع الفقم المحلية.
وقد ارتفعت أعداد القضاعة (ثعلب الماء) بعد الحماية. والثدييات البرية الأكثر انتشاراً تشمل الأرنب والقاقم وابن عرس والمنك. وفي المناطق الداخلية تجمعات من الثعلب الأحمر وأعداد قليلة من الثعلب القطبي المحمي (Alapex lagopus).
لم يبق في رأس الشمال مزارع لتربية المواشي. ولكن في الصيف تمتلئ المنطقة بأيائل الرنة. وفي نيسان (ابريل) من كل عام، تقود العشائر الست الباقية من شعب "السامي" الأصلي قطيعاً من أيائل الرنة قوامه 6000 رأس من كاراسيوك الى الأراضي الرعوية الصيفية في ماغيرويا. وفي أيلول (سبتمبر) يذبح جزء من القطيع، ويساق الباقي في طريق العودة مسافة 300 كيلومتر الى الأراضي الرعوية الشتوية في الأجزاء الداخلية من فينمارك.