يجري نهر الدانوب في عشرة بلدان اوروبية ويؤوي ثروة مائية وسمكية هائلة. لكن السدود وأعمال التجفيف دمرت 80 في المئة من أراضيه الرطبة. واليوم يعمل الصندوق العالمي لحماية الطبيعة على وقف التدهور من خلال محمية المحيط الحيوي في دلتا الدانوب
"البيئة والتنمية" (برلين)
الدانوب، ثاني أكبر نهر في أوروبا، هو حلقة وصل بين 80 مليون نسمة في 10 بلدان. يزود أكثر من 20 مليون شخص بمياه الشفة، وكان له وما زال دور كبير في تاريخ أوروبا.
على رغم أهميته البيئية والتراثية، تعرض نهر الدانوب خلال المئتي سنة المنصرمة لتدهور كبير نتيجة نشاطات الانسان. فقد أدى شق القنوات وتجفيف الأراضي الرطبة في حوضه، فضلاً عن قطع الغابات وبناء السدود والتلوث الناتج عن الصناعة والزراعة، الى إلحاق اضرار كبيرة بنظامه الايكولوجي. وكان للفيضانات الكارثية التي حدثت في آب (أغسطس) 2002 دلالات كثيرة لأثر تدخلات الانسان في تضخيم أخطار الظواهر الطبيعية.
يجري نهر الدانوب من الغابة السوداء في ألمانيا، مروراً بمدينتي فيينا عاصمة النمسا وبودابست عاصمة هنغاريا، نزولاً الى دلتا البحر الأسود في رومانيا واوكرانيا. لكن النهر لا ينتهي عند ضفتيه، فأراضيه الرطبة وجسمه المائي المكشوف وسهله الذي يغمره الفيضان وكائناته المتوطنة تشكل نظاماً ايكولوجياً معقداً ويعتمد أحدها على الآخر.
الرواق الأخضر
دُمر أكثر من 80 في المئة من الأراضي الرطبة في حوض الدانوب منذ نهاية القرن التاسع عشر. ولوقف المزيد من التدهور وعكس هذا الاتجاه، بادر الصندوق العالمي لحماية الطبيعة (WWF) بالتعاون مع حكومات بلغاريا ومولدوفا واوكرانيا الى استحداث "رواق أخضر" (Green Corridor) من الاراضي الرطبة في أسفل مجرى النهر. هذه المبادرة التي تهدف الى استعادة وحماية الأراضي الرطبة عبر الحدود في اوروبا هي الأكبر عالمياً، وتشمل 900 ألف هكتار من الاراضي الرطبة والبحيرات وأراضي الفيضان وغابات السهول المغمورة والمروج.
دلتا الدانوب، قبالة رومانيا وأوكرانيا، تؤوي أكبر مستوطنة لبجع البليكان (pelecanus onocrotalus) خارج افريقيا. ويصل 2500 زوج من هذه الطيور الى الدلتا كل ربيع للتعشيش، تجتذبها هذه المنطقة التي تبلغ مساحتها 5000 كيلومتر مربع لكونها جنة معزولة للحياة البرية وأكبر امتداد لغابات القصب في العالم. وتجري حماية البليكان وأحياء برية أخرى ضمن محمية المحيط الحيوي، التي تضم مناطق تخضع لحراسة مشددة مثل مستوطنة البليكان، ومناطق أخرى يمارس فيها صيد السمك التقليدي.
وكان صيد السمك وجراد الماء (Crayfish) النشاط الرئيسي في أجزاء من الدلتا قبل اقامة السدود. والمناطق الوحيدة الصالحة للزراعة كانت تلك التي ترويها السدود والحواجز الطبيعية على أطراف الجزر في أعلى مجرى النهر. وقد نُفذت خطط لاقامة السدود وتجفيف الاراضي على نطاق واسع اثر تطبيق "برنامج تغيير بنية الموارد الطبيعية واستغلالها المتكامل في دلتا الدانوب" عام 1983. وكان الهدف منها تسهيل الزراعة على نطاق واسع، لكنها أخفقت الى حد بعيد إذ لم تأخذ في الحسبان أحوال التربة غير المناسبة. وعند انتهاء ذلك المشروع عام 1990 بقي الاستخدام الوحيد للأرض هو رعي المواشي والخيول.
حماية ثروة
استوطن الناس حوض نهر الدانوب منذ قرون. وغالبيتهم من شعب ليبوفاني، هجروا روسيا منذ أكثر من 200 سنة هرباً من الاضطهاد الديني. وكان الرجال البارعون في الصيد يصطادون أنواعاً كثيرة من الأسماك، لكن الصيد حالياً يكاد ينحصر في سمك الشبّوط النهري من نوع الكروشان. وهذه نتيجة أعمال التجريف التي أدت الى تعميق القنوات وتقويمها، مما تسبب في دخول المياه الموحلة الى البحيرات النقية وهروب الأسماك التي تحتاج الى مياه نظيفة. ولم تكن هذه الأسماك الشديدة القدرة على الاحتمال شائعة الانتشار، لكن أعداداً منها هربت من مزارع الأسماك التي أقامها النظام الشيوعي في الدلتا.
ويعيش في الدانوب نحو 70 نوعاً من أسماك المياه العذبة، أي أكثر من نصف الأنواع الموجودة في أوروبا. ومع اتخاذ خطوات لتخفيض التلوث، عادت السلاطعين والرخويات النهرية الى الظهور. الحفش هو أكبر الأسماك الموجودة في الدانوب، اذ يصل طول الواحدة الى ستة أمتار. لكن وجوده محصور في الدلتا حيث يأتي ليضع بيضه. وأكبر هذه الأحفاش البلوغا، الشهيرة ببيض الكافيار. حالياً أصبح الحفش نادراً، ليس بسبب الصيادين، بل نتيجة السدود ومصادر التلوث الكثيرة في أعلى مجرى النهر. أما أضخم سمكة على امتداد مجرى الدانوب فهي السلَّور، أو السمكة القطة، التي يبلغ طولها 3,5 أمتار وتزن أكثر من 270 كيلوغراماً. وللسلور شهية قوية، ويمكنه ابتلاع بطة أو أوزة كاملة.
المشاكل البيئية في حوض الدانوب، بما في ذلك خسارة الأراضي الرطبة، لم تبدأ معالجتها الا بعد سقوط الستار الحديدي ونهاية الحقبة الشيوعية في أوروبا الشرقية خلال الفترة 1989 ـ 1990. وعلى رغم أن النهر تضرر كثيراً نتيجة نشاط الانسان، من بناء السدود والاستخدام غير المستدام للأراضي الى التلوث الناتج من الصناعة والزراعة، فان بيئته الطبيعية ظلت محفوظة أكثر مما في أجزاء كثيرة من أوروبا الشرقية. التهديدات القديمة مستمرة، ولكن ظهرت تهديدات جديدة أيضاً هي العواقب المحتملة بعد الانضمام الى الاتحاد الأوروبي وتطوير سدود جديدة وخطوط ملاحية وطرق سريعة.
دلتا الدانوب، التي تخضع للرعاية ضمن برنامج محمية المحيط الحيوي، آخذة في التحسن. وقد مول الصندوق العالمي لحماية الطبيعة إزالة بعض الضفاف الاصطناعية، مما جعل المياه تغمر الدلتا من جديد. وأوقف عمل كثير من جرافات الطمي. فبات مستقبل الحياة الفطرية والصيادين أكثر إشراقاً.