البحر الأحمر بحرٌ تتبدَّل أحواله بين ساعة وأخرى. وأنا مع فريقي البحثي، في مهمة علمية لدراسة أحوال موقع يتوسط مجموعة من الجزر في مدخل خليج السويس، تعرض لحادث تسرب كمية من خام النفط من ناقلة عملاقة. وزورقنا الخشبي هو آخر الزوارق الصالحة للأبحاث. سألت عن قائد الزورق وبحَّارته، فوجدتُ أمامي ثلاثة من عمَّال مركز الأبحاث البحرية في الغردقة، لا يوحي مظهرهم بأي درجة من الثقة!
أرغمتنا الأعطال التي أصابت محرِّك زورقنا على إبطاء سرعته. وقد أورثنا ذلك الملل والتوتُّر. وشاء زميلٌ أن ينزل إلى الماء، ويسبح بجوار الزورق البطيء. فجأةً، صاح أحد بحَّارتنا، محذِّراً من أن المياه التي نمرُّ بها الآن مليئة بأسماك القرش. فأصاب الهلع صديقنا، وأسرع يقفز إلى الزورق. ولم تمر دقائق قليلة حتى رأينا سرباً من الأقراش يحوم في المياه حول الزورق.
انشغلنا بالعمل، ولم نلتفت لتقدُّم الوقت، حتى فوجئنا بالغروب الوشيك. وكانت خُطَّتنا قائمة على أن ننهي عمل اليوم، ونلجأ إلى جزيرة قريبة ننصب فوقها خيمة جلبناها معنا، نقضي فيها ليلتنا، ثم نعود إلى الموقع نفسه في صباح الغد، لنستكمل أبحاثنا الحقلية في بقعة الزيت الخام.
قال أحد البحَّارة: "المسافة إلى الجزيرة طويلة، وسيدركنا الظلام ونحن في منتصف الطريق إليها، وهي محاطة بالشعاب المرجانية ذات الأطراف الحادة في المياه الضحلة حولها، وفي ذلك خطر على القارب".
تحرَّكنا باتجاه نقطة حراسة السواحل، فصاح فينا جنودها محذِّرين من مغبَّة الاقتراب. ثمة إجراءات أمنية ضد مهرِّبي المخدرات، علينا أن نحترمها. أمرنا الجنود بأن نبتعد عن النقطة ونعود إلى البحر المظلم، وكان علينا أن نطيع.
أخذنا نتخبَّط في الظلام، وكان القمر غائباً. ثم قال أحد البحَّارة: "سنصل إلى الجزيرة، بإذن الله!" واعتلى مقدِّمة الزورق، وجلس القرفصاء وعيناه مسددتان إلى الماء، والزورق يسير على مهلٍ. كان الرجل يردد كل بضع ثوانٍ كلمة: "غزير". فلمَّا سألت عن معناها، قيل لي إنها تعني ارتفاع الماء تحت الزورق، وابتعاد قاعه عن أسنان الشعاب المرجانية. وعلمت أن ذلك البحَّار يعتمد على صوت ارتطام المياه بجسم الزورق، ويترجم ذلك إلى "غزير"، فيمضي الزورق، فإن لم يكن الماء تحته غزيراً، صاح بزميله أن يوقف الزورق تماماً ويعدِّل اتجاهه.
وكانت فرحتنا بالغةً حين وطئت أقدامنا أرض الجزيرة. وفي الصباح كان أحساسنا بالجوع قد تعاظم، إذ كنا فقدنا رصيدنا من الطعام ونحن ننزل إلى الجزيرة في ظلام الأمس. فما العمل؟ جاءني البحَّار الثالث وقال لي: "اصبروا ساعتين، سآتي لكم بطعام".
وغاب عن أنظارنا ساعةً، وعاد وفي يده خيط يتدلَّى منه عدد من الأسماك الكبيرة، بعدد أفراد المهمة. وضع الأسماك أمامنا، ثم غاب لدقائق، وعاد يجرُّ وراءه كومةً من الأعشاب الجافة، أشعل فيها النار، وشوى عليها الأسماك. وكانت أشهى وجبة ذُقتُها في حياتي.
|