من كان يصدق أن يأتي اليوم الذي تتحول فيه عاصمة عربية حديثة تفتخر بالبنية التحتية والمرافق والخدمات الهندسية والعمرانية المتميزة، مثل الرياض، إلى مدينة تغرق في بحر من المياه الهادرة نتيجة عواصف من الأمطار الاستثنائية التي فاقت التوقعات؟ ما حدث للرياض حدث سابقاً لجدة ودبي ومعظم المدن العربية، وخاصة في السنوات الماضية التي شهدت تغيراً مناخياً واضحاً تمثل في ازدياد شدة الهطول المطري في المنخفض الجوي الواحد مع تراجع في عدد الأيام الماطرة سنوياً والكمية الإجمالية لمياه الشتاء. ما نعتبره الآن استثناء سيتحول في المستقبل إلى الوضع الطبيعي، وعلى المدن العربية أن تستعد للأسوأ.
الأمطار نعمة من الله، تعطي أسس الحياة والازدهار وتنعش مقومات الموارد الطبيعية وتفتح الآفاق على التنمية، وفي المنظور الفلسفي يمكن أن تغسل الأحزان والإحباط وتبشر ببداية جديدة ونظيفة. لكن سوء التخطيط يجعل الأمطار تتحول إلى نقمة على الناس ممن حرمهم الزمن أدوات الحماية والتكيف مع الأمطار، كما جعلهم سوء التخطيط والفساد يدفعون ثمناً غالياً لانعدام التفكير الطويل الأمد أو إساءة تنفيذ المخططات الهندسية في غياب الحسيب والرقيب.
في الأصل، تهطل الأمطار وتجري في مساراتها الطبيعية في الأودية والسيول لكي تغذي المياه الجوفية وتنعش الأنهار والنباتات. في جميع الحضارات الذكية التي قامت على وجه الأرض، تم تصميم الحضارة بناء على قوة المياه وخصائصها، ولنا في عظمة حضارة الأنباط في الأردن ومناطق من السعودية ما يؤشر على عبقرية في الاستثمار المحكم للموارد المائية الشحيحة ومياه الأمطار في دعم الرخاء والتنمية والزراعة وسبل المعيشة. وفي قارات العالم كافة شواهد على الحضارات التي احترمت طبيعة الدورة الهيدرولوجية وقامت بصياغة المدن والمستوطنات البشرية بحيث تتلاءم مع مسارات المياه.
ولكن في الكثير من المدن الحديثة، وبسبب التخطيط المغرور والقصير الأمد، تم التعدي على مسارات المياه وإجبار الطبيعة على تغيير مساراتها. لم تعد المياه في المدن تتجه نحو الأودية المفتوحة لتصب في البحار أو الأنهر أو مستجمعات المياه الجوفية، بل باتت تهطل على الساكنين في الأودية الجانبية وعلى الذين يقودون مركباتهم في الشوارع المنخفضة ذات التصريف السيئ، فتدمر ممتلكاتهم وأحياناً تستولي على حياتهم.
لم تعد البنية التحتية قادرة على تحمل مياه الأمطار، التي باتت تخرج من مناهل تصريف المياه لتغزو الشوارع مشكلة البرك والسيول التي تعطل السير وتعيق تدفق الحياة الطبيعية. أصبحت مياه الأمطار تتداخل مع الصرف الصحي، فيتم تسييل مياه الصرف الصحي إلى الأودية والسيول لرفع قابلية استيعاب مياه الأمطار. أصبحت المياه تتجه نحو مساراتها الطبيعية لتجد البنايات والشوارع في طريقها ومرافق تصريف غير قادرة على حجز التدفق وتنظيمه، فإذا بها تغرق البيوت ويدفع الفقراء الثمن الأغلى.
تلاعبنا قصداً وجهلاً بالدورة الطبيعية للمياه، ونحن ندفع الثمن الآن في كل موجة خير مطرية. الخيارات الهندسية المغرورة، التي تفضل المظهر على الجوهر ولا تلتفت لقوة الطبيعة وتحاول فرض أنماط جديدة عليها، هي السبب الأساسي وراء المآسي التي تحدث في فصول الشتاء وتغمر بيوت ومرافق وممتلكات الناس الواقفين بلا حول ولا قوة أمام جبروت طبيعة زادها غضباً أن الإنسان حاصرها وحاول التلاعب بمسارها.
التخطيط العمراني والشمولي للمدن والبنية التحتية يجب أن يتم اعتماداً على خصائص الموارد الطبيعة والمياه بشكل أساسي. كل قطرة مياه تسقط يجب أن تكون مصدر خير، وتخزن في السدود وتسيل في الأودية المفتوحة لتغذي المياه الجوفية. حتى في المدن، لا بد من تقنيات هندسية ذكية لجمع مياه الأمطار والاستفادة منها في زيادة المنسوب المائي الاحتياطي لأغراض السقي بدلاً من استنزاف المياه الجوفية.
ولكن الأهم من ذلك تأهيل البنية التحتية لاستيعاب المياه وتصريفها بالشكل المناسب.
الكلام أسهل كثيراً من الفعل، لأن الفعل يتطلب الإبداع ويتطلب التصميم ويتطلب المال. ولكن من المهم البدء بأنماط تفكير جديدة تحترم الطبيعة ولا تحاول السيطرة عليها وتبني الخطط الشمولية على مرجعية الموارد الطبيعية، لكي نستفيد من الأمطار وتبقى مصدراً للتنمية والازدهار، ولا نترك الناس في بلادنا يعانون من ويلاتها في كل فصل شتاء، ومن دون حلول جذرية.
|