توفِّـرُ لنا مدننا، بدرجة أو بأخرى، الخدمات الأربع التي نصّ عليها مؤتمر أثينا الدولي الرابع لفن العمارة الحديثة في العام 1933، وهي: السكنى، الترويح، العمل، والانتقال. ونحن من جانبنا، وبالقدر الذي تنجح به مدننا في التوافق معنا، نرضى عنها، "فالمدينة، رغم كل شيء، هي كل شيء، إذ لا نجد أنفسنا في أي شيء سواها" كما يقول الشاعر الفرنسي المعاصر أوجين جيفيك في قصيدته "المدينة رغم كل شيء". فإذا كان رصيدنا من الرضا منقوصاً، ندّدنا بها كما يفعل الرومنطيقيون، وهربنا منها بأرواحنا، أو بأرواحنا وأجسادنا معاً، إلى مدن أخرى مادية أو خيالية، أو - إذا اشتدّت بنا العواطف - ارتحلنا إلى الريف والبحيرات والغابات.
والذين أتيح لهم أن يعيشوا بدايات حياتهم فـي "مدن قديمة"، يستطيعون أن يتحدّثوا إليك بحنين، أو غالباً بأسى واضح، عن الحياة التي كانت أمورها تجري بأيسر مما تجري به اليوم. فقد كانت مظاهرها في تلك المدن أبسط، وأواصر التضامن بين الناس أشد متانة. أما اليوم، فقد اختفت الساحات الصغيرة التي كان يلتقي فيها الجميع، والأزقة الضيقة ذات الأسواق الغاصَّــة بالناس، والأحياء السكنية التي تظلّلها
الأشجار المثمرة وتنتشر فيها الخضرة. لقد غطى على كل ذلك، تدريجياً، مــدُّ المنشآت التجارية التي قامت لتلبية حاجات يومية متزايدة.
واستُبدلت بالمنازل، التي كانت تستقل بها الأسر، مبانٍ ضخمة يتسع كل منها لمئات الأشخاص. واجتاحت السيارات والمارة الشوارع. وتزايدت الكثافة السكانية في معظم المراكز الحضرية على نحو لا ضابط له، فبدأت المدن تعاني الأمرّين من مشكلات المرور والضوضاء، وأيضاً من تدهور الأوضاع الأمنية.
فكيف ترى مدينتك؟
قد تكتشف مثلي أنك، بحكم الاعتياد، تعيش في المدينة من دون أن تتوقف كثيراً لتفكر فيها. ولا أقصد هنا مدن الشعراء، بل مدننا التي نتنفس هواءها ونعيش على مسطحها. ونحن لا نرى مدننا جيداً، ربما لأننا ننظر إلى الأشياء في مستوى سطح الأرض. فإذا صعدنا برجاً أو جبلاً، أو طـوَّفـــت بنا مروحية على ارتفاع مناسب، فإن مجال الرؤية يتسع، ونكتشف حقيقة المدن.
الفرنسيون لا يخشون التجريب. لقد أنشأوا منتجع غران موت الشهير، وهو سلسلة من المباني المتشابهة تتخذ هيئة الشلاّل، ليتاح لكل ساكنيها أن يحصلوا على حصص متكافئة من الشمس، إذا سطعت. إنه نسق معماري يتحقق فيه قول المؤرخ الروماني فيروفياس إن العمارة هي توحيد لثلاثة مبادئ: المنفعة، والمتانة، والجمـــال. وتشــــعر أيضـــاً كأنَّ الشـــــاعر الإيطالي جيوسيب أونغاريتي، المولود في الإسكندرية، كان يقصده حين قال في مطلع قصيدة له عنوانها "صمت":
أعرف مدينةً تمتلئ كــلَّ يوم بالشمس.
من السفينة، المدهونة بالأبيض اللمّاع،
رأيتُ مدينتي تختفي، تاركةً – للحظة واحدة –
عناقاً من نور، معلّقاً بالهواء المضطرب.
|