يتعامل الأفراد في مجتمعاتنا مع قضايا البيئة باعتبارها شأناً ثانوياً أمام مشاكل المعيشة اليومية وتأمين متطلبات الغذاء والصحة والتعليم. وهذا الأمر ينعكس على المؤسسات الرسمية التي تنظر إلى وزارات البيئة في بلادنا وتتعامل معها على اعتبارها "وزارات بريستيج"، لإظهار أننا شعوب متحضّرة تشغل البيئة جزءاً من اهتماماتها، حتى لو كان هذا الاهتمام شكليّاً فقط.
وفي العموم، نجد وزارات البيئة ودوائرها مغيّبة عن قضايا البيئة، بما فيها تلك التي هي على تماس مباشر مع حياة المواطنين اليومية، مثل توفير المياه الصالحة للشرب وإدارة النفايات الصلبة، حيث تمارس جهات أخرى، كمؤسّسات المياه وأجهزة الإدارة المحلية (البلديات)، نوعاً من الاحتكار لا يسمح للعاملين في المؤسّسات البيئية الرسمية بأي تدخل ما لم يكن هذا التدخل مسيطراً عليه ويتماشى مع سياساتها.
هذه الممارسات وصمت معظم وزارات البيئة في بلادنا العربية بصفة التابع المطيع الذي ينتظر فتات المؤسسات الرسمية الأخرى. فلا تملك هذه الوزارات أيّة سلطة تنفيذية أو تشريعية تتيح لها، على سبيل المثال، وقف معمل حكومي يقوم بتلويث البيئة أو حتى مقاضاته. ولذلك ليس من المستغرب إذا ظهرت أرقام ومؤشرات تدلّ على أن أكثر الجهات تلويثاً للبيئة هي مؤسسات عامة تعود ملكيتها للشعب، الذي ينفق على تشغيلها ويعاني من ملوثاتها في الوقت ذاته.
في المقابل، لم تعمل وزارات البيئة العربية على تعزيز سلطتها وتقوية مكانتها، بل ارتضت لنفسها هذا الدور الذي منحها نوعاً من السلطة الرقابية على المؤسسات الخاصة، وبشكل محدّد تلك المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي لا تؤثر على الاقتصاد الوطني بشكل فاعل.
والنتيجة في المحصّلة هي إفلات "كبار الملوثين" من المحاسبة واستمرارهم في تلويث البيئة، دون أي رادع. وشكل هذا الأمر حافزاً حقيقياً للمؤسّسات الخاصّة الصغيرة والمتوسطة كي تتهرب من تطبيق التزاماتها البيئية المكلِفة كلّما توفّرت لها إمكانية الإفلات من سلطة الرقابة البيئية.
ومما زاد الطين بلّة أن بعض المؤسسات البيئية الرسمية فقدت البوصلة تماماً، وأخذت تقوم بدور منظمات المجتمع المدني في تبني برامج وحملات وطنية لا تتناسب والدور الذي يُفترض أن تقوم به. وإنه لمن المحرج أن تجد وزارات البيئة في أكثر من بلد عربي تسعى للصعود على أكتاف الجمعيات والنوادي البيئية في تبني حملة وطنية من شاكلة "لا للأكياس البلاستيكية"، وتتجاهل القضايا البيئية الكبرى التي لا تملك مؤسسات المجتمع المدني سلطة التصدّي لها، مثل التلوث الصناعي وأثره على الهواء والماء.
حتى في قيامها بدور منظمات المجتمع المدني، لا تحقّق المؤسسات البيئية الرسمية نجاحاً ملموساً يترك أثراً في المجتمع يستمر إلى ما بعد انتهاء هذه الحملات التي يغلب عليها الطابع الاحتفالي وتكون مرتجلة وغير مدروسة.
إن هذا الفشل الذي يتصف به العمل البيئي الرسمي، والذي يمكن تعليله بالرغبة الحكومية في تعزيز النمو الاقتصادي على حساب البيئة، يستوجب تدعيم المؤسسات البيئية وتمكينها، وليس المزيد من التهميش والتجاهل والإلغاء في بعض الأحيان. ذلك أن قيام هذه المؤسسات بدورها الحقيقي والفاعل سيساهم في تقليل الإنفاق على متطلّبات الصحة العامة وتصحيح التراجع البيئي الذي يتم تحميله للأجيال القادمة ويؤدي إلى تدني نوعية الحياة وتعذّر تحقيق النمو الاقتصادي المطلوب.
|