التنبؤ بالمستقبل صعب، وكلما تعددت الاتجاهات زاد عدم اليقين. إلا أن التنبؤ ضرورة اعتادها الإنسان، إما قلقاً من حاضر أو اشتياقاً لمستقبل. وما بين القلق والشوق يعمل المتنبئون.
الطاقة وشؤونها أمور حيوية في حياة إنسان اليوم وطفل الغد، تتعلق بها مصائر الأمم. بها تجري الأموال في شرايين الاقتصاد، فتغدو مساكن تحتوينا ومصانع نطارد منتجاتها ومطارات تحملنا إلى بعيد و"سندويتشات" سريعة نتناولها محشورين في أوتوبيس العودة إلى المنزل بعد يوم عمل شاق. لهذه الأسباب وغيرها تضع الدول بدائل وتصورات لطاقة الغد.
تُرى أي من مصادر اليوم سيغير قواعد اللعبة وتكون له الغلبة مستقبلياً؟ وما الذي يتطلبه الغد ليصبح هذا المصدر الأكثر رواجا؟ كيف لنا أن نخفض مخاطر الاستثمار؟ ما الذي تحتاجه البنية التحتية؟ ثمة أسئلة كثيرة تطرحها الطاقة كموضوع في حد ذاته، وما يتعلق بها في المستقبل.
في هذا الصدد أعد مجلس الطاقة العالمي دراسة بعنوان "سيناريوات طاقة العالم" يضع فيها تصورين لتراكيب منظومة الطاقة بحلول سنة 2050، أطلق عليهما اسمي "جاز" و"سيمفوني"، وذلك بالتعاون مع معهد بول شيرر في سويسرا. عُرضت الدراسة في مؤتمر الطاقة العالمي الذي استضافته مدينة ديغو في كوريا الجنوبية في الفترة من 14 إلى 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2013.
كما هو واضح، يشير اسما المنظومتين البديلتين إلى نمطين موسيقيين شديدي التباين. يندر أن نرى شخصاً يعجب بالاثنين معاً، فمن يرضى بصخب الجاز وتلقائيته وارتجاليته لا يقبل رصانة السيمفونيات وسيرها على نمط ثابت لا يتغير، فهي جمل موسيقية معقدة ربما تحتاج إلى نحو 80 عازف أوركسترا. ليس هذا فحسب، فمحبو السيمفونيات يعلمون ما سيسمعون وأي آلات ستشترك في هذه الجمل اللحنية دون غيرها. فإذا تغير شيء اعتبر نشازاً، وهو خطأ فادح لعازف الأوركسترا السيمفوني قل أن يقع فيه إلا المبتدئ. أما نقيضه -الجاز- فلا تتوقع فيه شيئاً محدداً، وإذا أعاد العازف الجملة اللحنية عدة مرات فالاختلاف وارد ومتوقع حتى وإن كان يسيراً. وربما استطاع عازف واحد تقديم معزوفته منفرداً أو مع آخرين يعدون على أصابع اليد.
من هذا المنطلق، بني البديل السيمفوني، كنموذج للطاقة، على إدارة حازمة من الحكومات - تحاكي قائد الأوركسترا - فهو يعتمد على صوت الناخب الذي يقرر أي الحكومات تظل وأيها ترحل تحقيقاً لمبدأ تأمين مصادر الطاقة وحماية البيئة. أما نموذج الجاز فيتحكم فيه المستهلك طبقاً لرغباته وميزانيته والمتاح في الأسواق. واعتماداً على نتائج عدة ورش عمل عقدها مجلس الطاقة العالمي في العديد من البلدان المختلفة، طبقاً لتقسيم المجلس بلدان العالم إلى ثماني مناطق جغرافية، تحددت عوامل ومتغيرات كل بديل. فمثلاً، هناك مجموعة من العوامل الحرجة يصعب التنبؤ بها أطلق عليها اسم "البطاقات البرية" أو "البجع الأسود". ومثل هذه العوامل شديدة الحساسية، وعند إدخال أحدها على أحد البديلين يكون كفيلاً بتغيير النتائج بشكل كبير وإلى مدى طويل. من هذه العوامل البنية التحتية لحجز الكربون وتخزينه واستعماله، وتخزين الطاقة بما فيها تكنولوجيات الغاز والكهرباء، ومستوى تغير سلوك المستهلك وأدائه النهائي ودمجه مع الشبكات الذكية، وأيضاً إدارة الطلب على الطاقة.
تشير النتائج إلى ارتفاع الطاقة المستهلكة من 546 إكساجول عام 2010 إلى 879 إكساجول في بديل الجاز و696 إكساجول في منافسه، بحلول سنة 2050 (الإكساجول يساوي 23.88 مليون طن مكافئ بترول)، أي زيادة الطاقة بنحو 61 في المئة بالجاز و27 في المئة بالسيمفوني.
وفي كلا البديلين، سيكون الوقود الأحفوري هو المسيطر وإن تباينت النسب. ففي حين سجل 79 في المئة عام 2010، يقدر له طبقاً لبديل الجاز أن يصل إلى 77 في المئة، تقل في السيمفوني إلى 59 في المئة، يسودها الفحم في كلا البديلين. وكإجراء لمواجهة الطلب الهائل على الطاقة، مدفوعاً برغبات نحو 10 بلايين نسمة، تصبح برامج تحسين كفاءة استخدام الطاقة أولوية قصوى، لتقلّ كثافة استهلاك الطاقة الأولية مقاسة بالناتج المحلي الإجمالي إلى النصف فى الجاز و53 في المئة في السيمفوني. كذلك تنمو المصادر المتجددة بوتيرة متسارعة لترتفع من 15 في المئة عام 2010 إلى 30 في المئة بالسيمفوني ونحو 20 في المئة بالجاز، وتشارك الطاقة النووية بنحو 4 في المئة من الطاقة الأولية طبقاً لبديل الجاز، و11 في المئة طبقاً للسيمفوني.
عند هذين الإيقاعين يتوقف المستهلك شاخصاً ببصره، يترقب غير مدرك أن سلوك اليوم هو ما يحدد نمط الغد. من هنا فإن نتائج هذين البديلين سوف تدفع إلى تعاون دولي عظيم يحتم على الجميع التكاتف لمواجهة هذا الحجم الهائل من الطلب على الطاقة. وبقدر سلوك الأفراد ورغباتهم – الذين سيكون لعددهم تأثير مباشر في حجم الطلب أيضاً - يعلق مصير الأجيال القادمة بين صخب الجاز وضجيجه وارتجاليته والأوركسترا السيمفونية وتناغم عازفيها رغم كثرتهم. وربما كان المصير بين هذا وذاك، ليصبح إيقاعاً جديداً له مريدوه. لذا علينا أن نبدأ العمل من الآن في تشكيل المستقبل قبل أن نقع فريسة ارتجاليته.
الدكتور محمد مصطفى الخياط مدير إدارة الشؤون الفنية في هيئة الطاقة الجديدة والمتجددة في مصر.
|