رجب سعد السيد
حدث في أواخر الصيف المنقضي أن جماعة من السيدات المصطافات اللاتي يحلو لهن النزول إلى البحر في الصباح الباكر، قبل أن يزدحم الشاطئ القريب من منطقـة "العجمي"، غرب الإسكندرية، شاهدن كائنات غريبة تزحف على الرمال باتجـاه الماء. فتصايحـن، وتجمعـن، لينهـلن عليهـــا ضـرباً وتقتيلاً، وهن يحســبنهـا نوعـاً غير مألوف من الصــراصـير! ولم يكن ما شاهدنه إلاّ سـلاحف وليدة، فقسـت حالاً، وانطلقـت من عـش بيـض صنعته سـلحفـاة أم اسـتبدّ بها الحنيـن إلى مسـقط رأسـها، فعادت إليه ووضـعت – على عجـل – بيضهــا فــي عـش وحيـد، وعادت إلى البحــر وهــي لا تـدري أن صـغارهـا ستدفع ثمن حنينها غاليــاً، إذ لـم ينـجُ منها وليد واحـد.
لقد تكفلت أنشـطة "تعمير" تلك المنطقة من الساحل المتوســطي بتغيير ملامح الشـريط الرملي، الذي تأتي إليـه إنـاث السلاحف لتضع بيضها في أعشاش تحفرهـا فيه. غــزت القرى السياحية ذلك السـاحل، وغرست أعمدتهـا الخرسانية في الموطـن الذي اعتادت الســـلاحف أن تصنع فيـه الأعشـاش منذ الأزل. فكانت النتيجـة أن هجـرت السلاحف المنطقة.
ولا تواجـه السلاحف ضـغوط جــور النشــــاط العمراني ونقـص الوعـي بمشكلتها فحســـب، إذ تضـــاف إلى ذلـك عمليـــات الصيد العرضيـة التي توقــع بتجمعــات الســـلاحـــف البحرية خســـائر فادحــة، وســرقة البيض قبل أن يفقس في أعشــاشــه الرملية الشاطئية.
عام 1995، تهيّــأ لنـــا في الفتـرة من منتصــف شهر تموز (يوليو) إلى نهايته أن نشـــارك في دورة تدريبية لصـــون الســــلاحـف البحرية المتوســـطية عقدت في جنوب تركيـــا. وأتاح لنــا ذلك أن نطّلــع علــى التجـربــة التركيـة في "اســــترداد" ســـلاحفهـا البحـريـة، التي كـان قسم كبيـر منهـا هجـــر الشـــواطئ التركيـة. فاتخــذت الإدارات هناك عــدة إجــراءات أعــادت الســـلاحف إلى شــواطئ تركيــا. لقــد تبنّـــت تلـك الإدارات – على ســبيل المثـــال – برنامجــاً أطلقـــت عليــه اســـم Double T: Tourism & Turtles أو – بالعربية – "2 س": الســـين الأولـــى هي للســياحة، أحــد الأنشـــطة البشــرية المهمة التي يعتمد عليهـا الاقتصـــاد التركــي، والسين الثانية للســـلاحف. ولا يضــحِّي البرنامج بواحــدة من أجــل الأخــرى، وإنمـا يأخـذهمــا معـــاً في الاعتبـــار، فيخصـص جانبــاً من اليــوم لكل من الســـينين. فالنهـــار للســـياحة، حيــث تتوافــر على الشــواطئ رمــال نظيـفة، مـع تخصيــص أماكــن مزوّدة بالمظــلات لكي لا تتعرض أعشــاش البيض للتدمير إن قام المصطافون بغرس مظـلاتهــم الشـــاطئية على هواهــم، مــع وعــي جماهيــري كبيــر حريص على عـدم التعرض للأعشـــاش. أمّــا الليـــل فهـــو للســــلاحـف، خالصـــاً، حيــث تتحــول المناطق الشـــاطئية المعـروفــة بتـردد الســـــلاحف عليهـا إلى محميــة، لا تقترب منها أي مركبـات تصــدر أصــواتاً، ولا ضــوضــاء من أي مصــدر، ولا أضــواء. فهـذه كلهـا مصــادر إفــزاع للســـلاحف، تجعلهــا تجفـــل، فتغير اتجاههـــا وتزحــف مســـرعة إلى الميـــاه، حيــث تلقـي بيضهـا، مهــدرةً إيــاه، بعــد أن فقـدت فرصــة دفنـه في أعشــاش الرمـل. وبالإضــافــة إلى ذلك، حظــرت الحـكومــة التركيــة أعمــال البنـــاء في مناطـق تعشيش الســلاحف، كما أنهـا كانت حازمة في تنفيـذ القوانيـن المنظمة لصيــد الســــلاحف.
|