عبد الهادي النجار
ما يتم تعلّمه أكاديمياً في مجالات الهندسة المختلفة ليس فقط قواعد التصميم والحساب الهندسي بل القدرة أيضاً على حلّ المشكلات وتجاوز الصعوبات باعتماد أفضل البدائل المتاحة اقتصادياً وفنياً.
وتزداد أهميّة الخبرات المكتسبة من خلال العمل الميداني، خاصّة في البلدان النامية، حيث نجهل عادة ما تخفي الأرض في باطنها من خدمات تحتيّة غير موثّقة، كشبكات التوتّر العالي وخطوط الهاتف وشبكات المياه الحلوة والمالحة، أو ما تحتويه هذه الأرض من آثار وبنى تاريخية لحضارات قديمة غير مكتشفة بعد.
من المثير أن نعلم أن كثيراً من الاكتشافات الأثريّة أتت بالمصادفة أثناء تنفيذ المشاريع التنمويّة، كما هي الحال في العديد من الاكتشافات الهامّة التي حصلت بالقرب من مملكة أوغاريت أو مدينة تدمر الأثرية في سورية، وغيرها الكثير.
من ناحية أخرى، فإن أي كشف أثري سوف يهدّد أي مشروع بالإلغاء أو التأجيل على أقلّ تقدير، وبالتالي تكون مشاعر المهندسين الذين تقع على أيديهم هذه الاكتشافات متناقضة ويغلب عليها الانزعاج والتوجّس خِيفة أن تكون اكتشافاتهم ذات أهميّة معتبرة تؤدي إلى إيقاف مشاريعهم بشكل تام.
في أحد مشاريع الدراسات البيئيّة الذي نفذه فريق استشاري دنماركي وكنت رئيساً لفريقه الوطني، كانت غاية المشروع تحديد موقع لمطمر صحّي للنفايات المنزلية لصالح إحدى المدن السورية. وقد استمرّت الدراسات لمدّة نحو عام واشتملت على زيارات حقليّة ودراسات للخرائط المتنوعة، بما في ذلك الصور الفضائية، وبدائرة بحث نصف قطرها ٢٥ كيلومتراً.
نتيجة لهذه الدراسات، تمّ تحديد قائمة طويلة للمواقع المرشّحة، ثم جرى تخفيض عدد هذه المواقع إلى قائمة قصيرة من خمسة مواقع، وأخيراً وعلى أساس مقارنة موسعة للجدوى تمّ التوصّل إلى أفضل موقع مرشّح ليكون مطمراً صحّياً.
أثناء المرحلة التالية من المشروع التي اشتملت على سبر تربة الموقع، كانت المفاجأة الثقيلة بانتظارنا، إذ ظهرت كسرات فخارية وأجزاء من مدافن حجرية في التربة السطحيّة للموقع. وهكذا خرج موقع المشروع من تحت سلطتنا إلى سلطة الضابطة الأثريّة التي قامت بالكشف على الموقع وقرّرت تسجيله ضمن المواقع الأثرية الهامّة، مما يعني استحالة تنفيذ أي عمل هندسي ضمن الموقع وبالتالي ضياع جهد عام كامل من الدراسات.
المفارقة في الموضوع أن معظم الاكتشافات، ونتيجة لكثرة المواقع الأثرية ومحدودية الموارد، لا تلقى لاحقاً الاهتمام المتوقع ما لم تكن ذات أهميّة فائقة، مما يتسبّب على الدوام في عرقلة المشاريع التنموية أو إيقافها، وغالباً ما تتعرض المواقع المكتشفة للنهب والتنقيب غير الشرعي.
ولعل قلّة الاهتمام هذه ما دفع مهندساً في أحد المشاريع التنموية إلى الطلب من عمّاله إزاحة موقع العمل وردم البنى الأثرية التي تم كشفها أثناء الحفر قائلاً: "يجب أن نترك لأحفادنا شيئاً يكتشفونه".
|