تشــكَّلـت منذ عقد الثمانينات لجـان دولية اضطلعت بمهمة مراجعة التباينـــات بين الدول الغنية والفقيرة. وأتت إحدى هذه اللجان، وهي لجنة بروندتـلانــد بمصطـلــحSustainable Development الذي توافق معظمُ الناطقين بالعربية على ترجمته بـ "التنمية المسـتدامة".
وقد شــكَّل عدد من دول العالم الغني لجـاناً أو مجالس قومية للتنمية المستدامة، لتمثل إطـاراً للعمل من أجل عالم مســتدام. إلا أن تصـادماً أيديولوجـياً عميـقاً وقع بين حتميـة الأخـذ بمبـدأ الاســتدامة وأولويـات الحكومـات والشـركات العملاقة، التي يهمهـا تنشـيط النمو الاقتصـادي. وكان ذلك التصادم في أوضح صوره في الولايات المتحدة، حيث تم تكوين المجلس الرئاســي للتنمية المستدامة عام 1993، وكان يرأســه آل غــور، نائب الرئيس الأميركي في ذلك الوقت، وانصـبَّ اهتمامه على توفير مناخ أفضل للتفاعل بين المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في علاقاتها بالبيئة. وما إن تســلَّم الرئيس جورج بوش الإبن مقاليد الأمور حتى اعتبر أن هذه المســـألة زائدة عن الحاجـة.
ولا تختلف الحال في فرنسا كثيراً، حين تم تشكيل "مجلس حقوق أجيال المستقبل" في عام 1995. غير أنَّ جاك كوســتو، الذي اختير أول رئيس لهذا المجلس، فاجأ الجميع بتقديم استقالته احتجاجاً على اســتئناف فرنسـا تجاربهـا النووية في المحيط الهـادئ، باعتبار أن التفجيرات النووية تضرب أخلاقيات مبدأ الاستدامة في الصميم. ومنذ ذلك الحين، لم يسمع أحدٌ عن هذا المجلس شــيئاً يُـذكـر.
لقد وصل مصطلح التنمية المستدامة إلينـا في عالمنا الثالث، فتلقَّفناه ورحنـا نردده في خطابنـا البيئي والاقتصـادي كـأمـرٍ مُســــلَّمٍ بــه، وأحيانا كان ترديده يجرى من باب الوجاهـة، فيتشـدَّقُ به أفراد يهمهم أن (يرصِّـعــوا) حديثهم بألفـاظ مستغربة!
إن هذا المصطلـح، "الاستدامة"، الذي يجري الترويج له بيننا منذ عقود قليلة، يعني ببساطة ترشيد استغلال الموارد الطبيعية، حتى لا تُنهـك أو تُستنفد، لكي نسلمها للأجيــال التالية بحالة مرضيـة. وهذا المصطلــح لا يفـرِّق بين البلدان التي سبقت إلى تأسيس تقدمها ورفاهية شعوبها على حســاب موارد يمتلكهـا آخـــرون، وبلدان يعيش فيها هؤلاء الآخرون، الذين يسعون إلى تعويض ما فاتهم، ويجتهدون لتنفيذ خطط إنمائية ترفع من شأنهم ومستوى معيشتهم. وهكذا، تصبح الاستدامة "سـقفاً"، يحــدُّ من تطلعات الفقراء، ويوقف نموهم، بالرغم من أن معظم موارد العالم الطبيعية، والحية منها على وجه الخصــوص، تقع على سطح أراضي ما يسمى العالم الثالث، وفي أعماق تربته وبحاره.
ولا شــكَّ في أن ظاهرَ المبدأ أخلاقيٌّ برَّاق، ولكن حقيقته تتكشَّـف على أرض الواقع، حين تتعامى عنه الإدارات الحاكمة في الدول الغنية، كما أسلفنا، وتلتفُّ لتواصلَ نهبَ ثروات العالم الثالث، مســتترةً وراء الهياكل الضخمة للشـركات المتعددة الجنسيات، يدعمها الفســادُ المحلي الذي تعاني منه شعوبُ العالم الثالث، وتعطيها شرعيةً زائفةً أحكامُ الســوق التي تعملُ تحت مظلة العولمـة.
|