لم يكن من قبيل الصدفة أن يتم "تسريب" إعلامي لمسودة "ملخص لصانعي القرار" من مساهمة فريق العمل الأول في التقرير التقييمي للهيئة الحكومية الدولية لتغير المناخ (IPCC) الذي يركز على قاعدة العلوم الفيزيائية والإثباتات العلمية حول تغير المناخ والمقرر صدوره رسمياً بعد شهرين. المسودة تشير بشكل واضح إلى وصول نسبة التيقن من حقيقة التأثير البشري في ظاهرة تغير المناخ إلى 95 في المئة، وهذا ما يتجاوز التقرير التقييمي الرابع عام 2007 (90%) والتقرير الثالث عام 2001 (66%) ويؤكد أن السبب البشري لتغير المناخ أصبح محسوماً من الناحية العلمية.
ستخضع المسودة لأربعة أيام من المفاوضات بين حكومات دول العالم المختلفة في الأسبوع الأخير من أيلول (سبتمبر). ومن المتوقع ممارسة العديد من الضغوط السياسية، خصوصاً من الولايات المتحدة والصين وروسيا وغيرها، لتخفيف لهجة التقرير وإثارة الشك في نتائجه. في هذا الصدد، ربما يكون التسريب متعمداً من قبل بعض العلماء الذين عملوا على التقرير، من أجل إعلام الرأي العام بحقيقة مضمونه العلمي قبل أن يتعرض للابتزاز السياسي. وقد أفادت مصادر في الهيئة الحكومية وكالة رويترز بأن التقرير الذي يقع في 15 صفحة تلقى 1880 ملاحظة من الحكومات المختلفة ستتم مناقشتها لاحقاً!
على مسار متواز، في أروقة المفاوضات الشاقة للاتفاقية افطارية حول تغير المناخ، يتم صنع مستقبل جديد. ربما سيتطلب الأمر وقتاً طويلاً قبل الوصول إلى أسس اتفاقية ملزمة بديلة عن بروتوكول كيوتو سنة 2015 تدخل التنفيذ سنة 2020. ولكن من المؤكد أنه لم يعد هنالك تصنيف بين دول النامية ودول صناعية أو دول خارجة عن الملحق الأول يمكن لها أن تؤجل التزاماتها بتخفيض انبعاثات غازات الدفيئة. وسواء تم التوصل إلى اتفاقية ملزمة حسب كميات الانبعاثات أو نسبتها لكل فرد أو نسبة النمو الاقتصادي، فإن الجميع سيضطر للمشاركة والالتزام.
أحد أهم التطورات الجديدة سيكون إلزام الدول كافة بتقديم بلاغات وطنية حول انبعاثاتها من غازات الدفيئة مرة كل سنتين، وليس بشكل مفتوح وحسب التساهيل كما يحدث الآن. هذا الألتزام يتطلب وجود قاعدة بيانات واسعة وشاملة ومحدثة لجميع أنواع الانبعاثات من القطاعات كافة، وهو ليس أمراً سهلاً. ستضطر الدول العربية أيضاً إلى تطوير برامجها الوطنية الملائمة في مجال التخفيف، بعيداً عن "الفهلوة" ومحاولة استجداء التمويل الخارجي.
الصفقة التي ستحدث في أروقة مفاوضات الاتفاقية سوف تجمع الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشكل أساسي، ولكن تداعياتها سوف تطال الجميع.
بقيت المواقف العربية لمدة طويلة متأرجحة بين الرفض التام للالتزامات، بحجة التأثير على القطاع النفطي وأن المسؤولية يجب أن تتحملها الدول الصناعية، وبين الوعود اللفظية بالمشاركة في الجهود الدولية، وأخيراً محاولة التفكير الجاد ولكن بشكل فردي في المشاركة الفعالة في جهود التخفيف والتكيف. من المهم أن يدرك صناع السياسات البيئية والقطاعات الاقتصادية، وبخاصة الطاقة والصناعة، أن ساعة الحقيقة في تغير المناخ حانت، سواء على صعيد الآثار المباشرة لارتفاع الحرارة ونقصان هطول الأمطار أو على صعيد الالتزامات الدولية.
العلم والتخطيط السليم هما الخيار المنطقي الوحيد أمام العالم العربي، لتحويل التحديات الماثلة في تغير المناخ إلى فرص يمكن استثمارها في التحول الجوهري نحو اقتصاد أخضر مستدام في الطاقة والصناعة وإدارة النفايات، وتحسين القدرة التكيفية لقطاعات المياه والزراعة والتنوع الحيوي والمناطق الساحلية وغيرها.
في السنوات المقبلة، سيصبح ما نسميه "حالياً" "الاقتصاد الأخضر" هو "التخفيف من تغير المناخ" وسيتحول ما اعتدنا على تسميته "التنمية المستدامة" إلى "التكيف مع تغير المناخ". وإذا تهيأنا منذ الآن، فسنجد مكاناً في قطار المستقبل، وإلا سيفوتنا ونلهث وراءه بينما تكسب الدول الأكثر ذكاء وتخطيطاً كل الفرص الكامنة في جرأة الريادة.
|