لعبت الزراعة دوراً ريادياً في نشأة الحضارات الإنسانية عبر العصور الغابرة قبل الميلاد، ونقلت الإنسان من حياة التنقل والترحال بحثاً عن الطعام إلى استقرار دائم للمجتمعات في مناطق مختلفة من العالم، كما في وادي الرافدين (دجلة والفرات) ووادي النيل، حيث شهدا أعرق الحضارات الإنسانية وأدت ممارسة الزراعة فيهما إلى بناء القرى وتشييد السدود وقنوات المياه لري الأراضي الزراعية. كما أسفرت الزراعة عن تطور مجموعة من المهن والصناعات المرتبطة في الأنشطة الاقتصادية ومجالاتها المختلفة.
تلك كانت ثورة زراعية بدأت منذ آلاف السنين قبل الميلاد كما سلف ذكره. وهناك ثورة زراعية أخرى بدأت في أوروبا وقادتها بريطانيا العظمى حينذاك في مطلع القرن الثامن عشر، وتميزت باعتماد أقل على اليد العاملة وارتفاع في انتاجية المحاصيل الزراعية، فضلاً عن تنوع تلك المحاصيل. وقد ساهمت في ذلك عدة عوامل كتوافر الأراضي الزراعية والثروة الحيوانية، إلى جانب مناخ موات، وتحسن في كفاءة استخدام الموارد الزراعية.
5 تحديات
فالزراعة التي أرست مداميك الحضارات الإنسانية، وكانت بمنزلة حجر الأساس في تقدم البشرية وتطورها ومحركاً مهماً لاقتصادات العالم عبر الزمن تواجه اليوم تحديات تمس طاقتها للقيام بدورها كمصدر للغذاء الذي لا غنى عنه لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ولعل أهم هذه التحديات ما يأتي:
1 - محدودية الموارد الزراعية (الأرض والمياه) وتقلص نصيب الفرد منها، وازدياد ندرتها في ظل ارتفاع عدد سكان العالم الذي من المتوقع أن يتجاوز 9.5 مليارات نسمة بحلول عام 2050.
2 - لتغير المناخ آثار مباشرة وغير مباشرة على انتاجية المحاصيل الزراعية جراء تغير أنماط هطول الأمطار وحصول الفيضانات والجفاف. كما أن تحمض المحيطات بسبب امتصاصها لمزيد من ثاني أكسيد الكربون يؤثر في سلامة صحة مواردها البحرية التي يعتمد عليها الكثيرون في غذائهم وسبل عيشهم.
3 - تقلص مساحات الأراضي الصالحة للزراعة بسبب سرعة التحضر، فضلاً عن الجفاف والتصحر وتدهور التربة.
4 - المنافسة على الأراضي الزراعية لإنتاج محاصيل زراعية يتم تحويلها إلى طاقة متجددة كبديل للطاقة الأحفورية، مما يسهم في تراجع إنتاج السلع الغذائية الرئيسية وارتفاع اسعارها.
5 - بالرغم من الأهمية القصوى للزراعة ودورها الحاسم في حياة البشرية وحضارتها عبر القرون الماضية، فإنها لم تلق العناية الكافية خلال العقود الأربعة التي سبقت أزمة الغذاء العالمية في عام 2008. فالزراعة لم تحصل على الاستثمارات اللازمة لتنميتها لا من قبل الحكومات الوطنية ولا من القطاع الخاص. ويشير البنك الدولي في تقريره عن التنمية في عام 2008 حول «الزراعة من أجل التنمية» إلى تراجع نصيب قطاع الزراعة من مساعدات التنمية الرسمية المقدمة من المانحين، إذ بينما كان نصيب قطاع الزراعة حوالي %18 في عام 1979، فإنه انخفض إلى حوالي %3.5 في عام 2004. وكان ذلك نتيجة انحياز المانحين ضد قطاع الزراعة واعتبار مشاريعه غير مجدية اقتصادياً، فضلا عن معارضة المزارعين في الدول المانحة دعم الزراعة في الدول النامية المستوردة لصادراتهم الزراعية.
عبء ثقيل
وجدير بالذكر، أن التحديات سالفة الذكر التي تواجهها الزراعة في العالم تتفاوت بين المناطق، وهي أكثر حدة في المنطقة العربية. فبينما يشهد العالم معدل نمو في السكان لا يتجاوز %1، فإن المعدل المقابل في المنطقة العربية لا يقل عن %2 سنوياً، مما يضع عبئاً ثقيلاً على الزراعة للمساهمة في الأمن الغذائي.
كما أن الموارد الزراعية، خاصة ندرة المياه في المنطقة التي لا يتعدى نصيب الفرد منها حوالي 600 متر مكعب سنوياً مقابل ما يزيد عن 6500 للفرد عالمياً، يحد بشكل كبير من دور الزراعة في التنمية المستدامة في العالم العربي، حيث معدل إنتاج الحبوب، السلعة الرئيسية للغذاء لا يتجاوز نصف المعدل العالمي المقدر بحوالي 3600 كيلوغرام للهكتار. ولذا تعتبر المنطقة العربية من أكثر المناطق المستوردة للحبوب، وأكثرها تعرضاً لمخاطر انخفاض امدادات هذه السلع، أو ارتفاع أسعارها، أو فرض قيود على تصديرها من قبل الدول المنتجة لها كما حصل أثناء أزمة الغذاء العالمية في عام 2008، ومؤخراً في ظل انتشار جائحة كورونا.
رؤية تعيد الدور المنشود
أخذاً في الاعتبار ما تقدم، فالزراعة التي شكلت قوام الحضارات الإنسانية والثورات الصناعية تبدو اليوم مكبلة بالتحديات سالفة الذكر، وتحتاج إلى رؤية تعيد لها دورها المنشود في تحقيق التنمية المستدامة التي لا تترك أحداً يتخلف عن الركب، ولا يبقى إنسان في العالم معلقاً في براثن الفقر ولا جائعاً يعتصر ألماً.
فالعالم الذي تعهد في عام 2015 بإرساء العدالة والأمن والسلام لابد من أن يحزم أمره ويجدد عهده بإرادة سياسية لا لبس فيها لإقامة تعاون دولي ملزم يقضي باعتبار الموارد الزراعية (الأرض والمياه) أينما وجدت لا يمكن التصرف بها بما يناقض دورها الإنساني في تأمين الغذاء للبشرية دون قيود على التصدير، أو اتخاذ سياسات وإجراءات تتنافى مع مقومات التنمية الزراعية في الدول النامية، وبعيداً عن النزعات القومية، بل العمل بموجب المبادئ الإنسانية التي تبنتها الأمم المتحدة، ولكي تستعيد الزراعة دورها المرتجى في التنمية المستدامة.
د. عبدالكريم صادق، مستشار اقتصادي في الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، والمدير التنفيذي لدولة الكويت لدى الصندوق الدولي للتنمية الزراعية، ومستشار لمدير تنفيذي في البنك الدولي سابقاً. عضو مجلس أمناء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد).