هناك نوعان رئيسيان من الاستثمار الأجنبي المباشر، وهما استثمارات الحافظة المالية والاستثمارات المباشرة. ويكون النوع الأول عادة في أصول مالية بحتة كالأسهم والسندات، ويكون النوع الثاني على شكل مشروعات اقتصادية حقيقية ويحتفظ المستثمر فيها على قدرة توجيهها أو الاشتراك في إدارتها بطريقة ملموسة.
وعلى عكس الديون، فإن الاستثمارات المباشرة بالنسبة للدول المضيفة لا تترتب عليها التزامات مالية لخدمة الديون في حالة الاقتراض، كما أن تحويل العوائد أو أي جزء منها خارج حدود الدولة المضيفة يظل رهناً بتحقيق أرباح على تلك الاستثمارات. وهي ميزة تجعل الاستثمارات المباشرة أكثر ملاءمة من الديون وما تترتب عليها من أعباء على موازين مدفوعات الدول المضيفة، وبصورة خاصة إذا ما كان هدف الاستثمارات المباشرة تشجيع الصادرات أو الإنتاج المحلي للحد من الواردات.
يرجع تاريخ الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الدول النامية إلى القرن التاسع عشر، إبان فترة الاستعمار. وقد تركزت هذه الاستثمارات في قطاعي المعادن والزراعة لأغراض التصدير، وكذلك في قطاع الخدمات العامة. وقد استطاع المستثمرون الأجانب بدعم من حكومات بلادهم، في أغلب الأحيان، من أن يجنوا معظم المنافع الاقتصادية، مما دعا إلى اعتبارهم مستغلين من قبل حركات التحرر الوطني في الدول المضيفة للاستثمارات.
السيادة الوطنية
وإن تكن مسألة السيادة الوطنية في إدارة الاقتصاد لا تزال أمراً حيوياً بالنسبة للدول النامية في ضوء تجاربها أثناء فترة الاستعمار، فإنها لم تعد قضية تتسم بالحدة ذاتها كما كان ذلك سابقاً، لأن كثيراً من الدول النامية أصبحت أكثر تفهماً لملابسات الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وخاصة أنها أصبحت تعتبر أحد المصادر للمساهمة في سد عجوز حساباتهم الجارية.
وقد أيد كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مثل هذا التوجه، وكثير من المهتمين بشؤون التنمية في العالم استناداً إلى ميزات الاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي لا تترتب عليها التزامات مالية محددة على الدول المضيفة، كما هو الحال بالنسبة للقروض كما سبق ذكره، كما أن تلك الاستثمارات يمكن أن توفر فرص عمل جديدة، وتسهم في توفير التكنولوجيا والخبرات الإدارية والفنية التي تحتاج إليها الدول النامية.
مناخ الاستثمار
وقد عملت العديد من الدول النامية، بما في ذلك في المنطقة العربية، على تحسين مناخ الاستثمار في بلدانها. وبالرغم من ذلك لم تحظ تلك الجهود بإحراز التقدم المنشود. وقد اتسمت الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بين أمور أخرى، بما يلي:
1 - انحسارها في عدد قليل من الدول، إذ إن عشرة اقتصادات مضيفة لتلك الاستثمارات (أميركا، الصين، سنغافورة، هولندا، إيرلندا، الصين (هونغ كونغ)، المملكة المتحدة، الهند، كندا) استحوذت على 941 مليار دولار، أي حوالي %60 من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة إلى الاقتصادات المضيفة من أصل حوالي 1.53 تريليون دولار في عام 2019، كما يستدل من تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الاونكتاد) حول الاستثمار العالمي لعام 2020. ويدل ذلك على أن التنافس الشديد على الاستثمارات المباشرة لا يوفر فرصاً سانحة ومستقرة لمعظم الدول النامية، وخاصة الدول الأقل نمواً، التي لا تزال تفتقر إلى مقومات جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
2 - تشير البيانات المتوافرة حول الاستثمارات الأجنبية المباشرة بتقلبات حادة، إذ انخفضت قيمتها من حوالي 1.964 تريليون دولار في عام 2007 إلى حوالي 1.118 تريليون دولار في عام 2009، وذلك نتيجة الأزمة المالية التي شهدها العالم في عام 2008، كما أن جائحة كورونا التي تفشت في أواخر عام 2019 وانتشرت فيما بعد في أرجاء العالم أثرت بشكل كبير في تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة إلى الدول المضيفة، حيث انخفضت قيمتها من حوالي 1.745 تريليون دولار في عام 2018 إلى حوالي 1.01 تريليون دولار في عام 2020. وتشير هذه التغيرات الكبيرة في مستوى الاستثمارات المذكورة الى أنها تظل مرهونة بالتطورات الاقتصادية والمالية وغيرها من الصدمات التي تحد من استقرارها وانتظامها كأداة فاعلة في التنمية المستدامة.
سهولة ممارسة الأعمال
وفضلا عن ما تقدم، هنالك جوانب مهمة تتعلق بسهولة ممارسة الأعمال. فعلى سبيل المثال يشير تقرير البنك الدولي حول مؤشر سهولة ممارسة الأعمال لعام 2020 الى أن ترتيب معظم الدول العربية (17 دولة) بالمقارنة مع 190 اقتصاداً حول العالم تراوح ما بين المرتبة 75 للأردن، و190 للصومال. وهو أمر يشير إلى أن على الدول العربية أن تبذل مزيداً من الجهود لتوفر مناخاً، استثمارياً أكثر سهولة وأقل تعقيداً. كما أن أمام الدول العربية فرصة لتعزيز التكامل الاقتصادي العربي من خلال إرادة سياسية تفضي إلى استغلال الإمكانات العربية المتاحة من موارد طبيعية ومالية وبشرية تعتبر عوامل مهمة في تطوير التجارة البينية العربية وكذلك الاستثمارات البينية العربية المباشرة.
إزالة المعوقات
يستدل مما تقدم أن على الدول النامية المضي قدماً في تحسين مناخ الاستثمار والعمل على إزالة المعوقات، ومن بينها ما يلي:
1 - الإجراءات الإدارية: من الضروري تفادي التعقيدات الإدارية وتسهيل عملية الحصول على التراخيص المطلوبة وإنجاز المعاملات بالسرعة المطلوبة.
2 - السياسات الاقتصادية: وضوح السياسات الاقتصادية العامة واستقرارها من شأنه تعزيز القدرة على جذب الموارد وتوطينها بشكل استثمارات مباشرة.
3 - الجوانب القانونية: للدول المضيفة للاستثمار الأجنبي المباشر اهتمامات لا يمكن إغفالها، وبصورة خاصة المحافظة على السيادة الوطنية في النشاط الاقتصادي من ناحية، وخلق البيئة المناسبة للاستثمار الأجنبي المباشر من ناحية أخرى.
4 - تعزيز الثقة: من الأهمية بمكان تعزيز ثقة المستثمرين بإجراءات وقوانين الدول المضيفة للاستثمار الأجنبي المباشر وتميزها بالمساواة والعدالة والتنفيذ بشفافية مطلقة.
5 - الاستقرار السياسي: وهو من الأهمية بمكان فيما يتعلق بجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي يتطلب توافر الأمن والسلم بعيداً عن الصراعات والحروب التي لا توفر البيئة لاستقرار الاستثمارات وتأدية دورها المنشود.
د. عبدالكريم صادق، عضو مجلس أمناء المنتدى العربي للبيئة والتنمية
نُشر هذا المقال في جريدة "القبس" بتاريخ 30 حزيران (يونيو) 2021