بعد الأرض والمحيطات، هل يتحوّل الفضاء إلى مطمر جديد للنفايات؟ ليس الموضوع جديداً، فهو كان محور نقاش منذ سنوات، وقد اعتبره برنامج الأمم المتحدة للبيئة منذ عقدين تحدّياً مصيريّاً يواجه البشرية في المستقبل. لكن الهلع الذي أصاب العالم بسبب الصاروخ الصيني "التائه"، الذي هام في الفضاء بلا تحكُّم بمساره قبل سقوطه في المحيط الهندي، أعاد الاهتمام بنفايات الفضاء كمشكلة راهنة لا تنحصر في المستقبل والخيال العلمي.
لا يمكن بالطبع مقارنة حجم نفايات الفضاء حالياً بما ينتجه العالم من نفايات صلبة كل يوم، والتي تتجاوز ملياري طن سنوياً وفق تقديرات البنك الدولي. لكن من كان يتصوّر قبل 100 سنة أن نفايات العالم ستصل إلى هذا الحجم، فتجتاح البحر بعد أن امتلأت بها مطامر الأرض؟ لذا فإن أيّ تأخير في معالجة فضلات الخردة البشرية في الأجواء اليوم ينذر بخطر تحويل الفضاء إلى مكبّ جديد للنفايات في المستقبل. وقد بدأت المؤشّرات بالظهور، ليس في المدارات الفضائية فقط، بل فوق الكواكب المحيطة بنا أيضاً. فعلى سطح القمر اليوم أكثر من 190 ألف كيلوغرام من الفضلات التي خلّفتها المركبات الفضائية المأهولة والاستكشافية. الجسم الأوّل المصنوع من البشر الذي هبط على القمر كان مسبار "لونا - 2" السوفياتي عام 1959، في حين كانت "أبولو - 11" الأميركية عام 1969 أول مركبة مأهولة تهبط على سطحه، وشهد عام 2013 أول هبوط سلس عليه من مسبار صيني غير مأهول. هذه والكثير غيرها من المركبات والمعدات الاستكشافية التي وصلت الى سطح القمر في السنوات الستين الماضية تركت المخلّفات وراءها. ويؤشّر بدء هبوط المركبات والمسابير الفضائية الاستكشافية على المريخ إلى بداية نشوء مكبّ جديد للنفايات على كوكب ثالث، بعد الأرض والقمر.
وقد بدأت المدارات الفضائية تزدحم بفضلات الأقمار الصناعية، إذ تضمّ حالياً أكثر من 2000 قمر عامل و3000 من الأقمار المنتهية الصلاحية، التي أصبحت بمثابة خردة من المعادن والنفايات الخطرة. وتقدَّر فضلات الصواريخ وأجزاء الأقمار الصناعية المنتهية الصلاحية التي تدور حول الأرض اليوم بأكثر من 9 آلاف طن. وبين نحو 2000 جزء كبير من أجسام صاروخية تائهة، هناك 1035 من المخلفات السوفياتية / الروسية، و546 أميركية، و170 صينية، والبقية لدول مختلفة، في طليعتها الهند والاتحاد الأوروبي واليابان. وتتفاقم المشكلة حين تصطدم هذه الأقمار الميتة وقطع الحطام التائهة بعضها ببعض، لتنتج مئات آلاف الشظايا التي تأخذ مدارتها الخاصة وتشكّل خطراً على الأقمار والمركبات الفضائية العاملة. وستتفاقم المشكلة مع دخول الشركات الخاصة في سباق وضع أقمار صناعية في الفضاء، خاصة للاتصالات وتحديد المواقع على سطح الأرض، واستخدامات محدّدة مثل خدمات توصيل البضائع والتحكُّم بحركة السيارات والحافلات التي تعمل بلا سائق. ومن المتوقّع أن يؤدي هذا إلى إطلاق أكثر من 50 ألف قمر صناعي جديد خلال عقود قليلة، مما يؤدي إلى نشوء ازدحام فضائي غير مسبوق، مع ما يرافقه من نفايات تملأ الفضاء بعد انتهاء فترة الخدمة.
الصاروخ الصيني ذكّر العالم بأن خطر النفايات الفضائية لا يقتصر على الفضاء الخارجي، ٍبل يُصيب الأرض ويهدّد سلامة البشر والطبيعة، حين تسقط أجزاء من الحطام عشوائياً. بقايا الصاروخ الأخير سقطت في المحيط الهندي، فتنفس الناس الصعداء لأنها لم تقع على مناطق مأهولة أو سفينة في عرض البحر، مع أن آثاره المحتملة على الحياة البحرية ما تزال مجهولة. غير أن بقايا الصاروخ الصيني المشابه قبل سنة سقطت على قرى مأهولة في ساحل العاج، حيث تسببت بأضرار. ولم يكن ممكناً تحديد مكان السقوط إلا قبل لحظات من وقوعه، لأن الصاروخ يفتقد إلى أجهزة تحكّم أثناء رحلة العودة، وذلك توفيراً للتكاليف. فالصين في عجلة من أمرها لبناء محطة فضاء مأهولة خاصة بها.
ليس الصاروخ الصيني القطعة الأولى من نفايات الفضاء التي تعود إلى الأرض، لكنه أكبر جسم فضائي يسقط بلا قيود. وفي حين يُعتبر احتراق الأجسام وتفككها أثناء دخولها أجواء الأرض أفضل للسلامة من بقائها تائهة في الفضاء، فالخطر يكمن في بقاء قطع كبير غير قابلة للتفكّك، مثل خزانات الوقود المقاومة للصدمات. وكلما كَبُر حجم الصاروخ، مثل النموذج الصيني الأخير، يكبرُ خزّان الوقود. ولا توجد حتى الآن دراسات كافية عن أثر هبوط الأجسام من الفضاء في مواقع عشوائية على الأرض والمحيطات، ليس على البشر والمنشآت فقط، بل أيضاً على الحياة فوق اليابسة وفي البحر، والأوضاع البيئية عامّة.
مع زيادة الازدحام الفضائي، ودخول دول وشركات خاصة في السباق المحموم لحجز حصة لها في الأجواء، أصبح لزاماً وضع معايير صارمة تحدّد شروط السلامة والأمان المقبولة، لمنع الحوادث والتأكُّد من عدم نشوء مكبّات جديدة للنفايات في الفضاء، وتلويث نفايات الفضاء للأرض والمحيطات، وتعريض سلامة الناس للخطر. فهذه المعايير غير موجودة حتى الآن. ولو حصل ضرر من أي صاروخ أو قمر صناعي، أكان صينياً أم من جنسية أخرى، فليس في القانون الدولي قواعد واضحة لتحديد المسؤوليات. ومن المقترحات المطروحة منع وضع أجسام يتجاوز وزنها 10 أطنان في مدار فضائي بلا أجهزة تتحكّم بمكان وقوعها حين عودتها إلى الأرض. ومن الضروري إلزام الدول والشركات بإزالة أقمارها الصناعية من الفضاء عند انتهاء صلاحيتها، وذلك بطرق سليمة ومأمونة، وتحميلها المسؤولية عن أي ضرر قد يحصل.
الخطر هو أن تتحوّل القضية إلى ما يشبه معضلة توزيع المسؤوليات في التصدّي للتغيُّر المناخي، إذ تطالب بعض الدول، بزعامة الصين، بالحق في التلويث بمستويات أعلى ولمدة أطول، على اعتبار أن الدول الصناعية كانت مَصدر معظم الانبعاثات الكربونية المسبّبَة للاحترار العالمي قبل أن تدخل هي في ثورتها الصناعيّة المستجدة. ولكن على الدول التي افتتحت عصر استكشاف الفضاء أن تبدأ بنفسها، باعتماد معايير صارمة تضع حدّاً للازدحام الفضائي والتلويث. وعلى الصين، كلاعب فضائي كبير جديد، المشاركة في وضع هذه المعايير والالتزام بها.
العالم لا يحتمل تكرار الأخطاء المدمّرة. فلا وقت لفترة سماح أخرى تطيل أمد التلويث الفضائي، شبيهة بتلك التي اعتُمدت في مفاوضات التغيُّر المناخي تحت شعار "المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة". فالشيطان يكمن في "ولكن" هذه، حين تصرّ بعض الدول التي تحوّلت إلى قوى صناعية عظمى على الاختباء خلفها، بينما وُضعت في الأساس لإعطاء فرصة عادلة للدول النامية حتى تدخل عصر التكنولوجيا الحديثة وتتمكن من تحقق التنمية المستدامة لشعوبها.
على المجتمع الدولي التعاون لمنع تحويل الفضاء إلى مكبّ جديد للنفايات.
|