الهيدروجين كان الشغل الشاغل في الأسابيع الأخيرة للعاملين في مجال الطاقة المتجددة على ضفتي المحيط الأطلسي، من وزارة الخارجية الألمانية في بون إلى "معهد موارد المستقبل" في واشنطن. وكأن الجميع كان يستعدّ لـ "قمة يوم الأرض" المناخية، التي استضافها الرئيس الأميركي جو بايدن منذ أيام، بطرح أفكار جديدة للمساهمة في تعزيز تخفيض الانبعاثات الكربونية.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل استبقا اجتماع بايدن بدعوتهما الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى قمة مناخية قبل أسبوع على اجتماع واشنطن. وكأن أوروبا أرادت توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة مفادها أن سياستها المناخية بقيت مستقرة، منذ "اتفاقية الأمم المتحدة الاطارية حول تغيُّر المناخ" قبل 30 عاماً، وحافظت على التزاماتها الدولية بلا تردّد، بخلاف الولايات المتحدة، التي كانت واقعياً خارج العمل المناخي الدولي على مدى 12 عاماً، امتدت خلال رئاسة جورج بوش الإبن لولايتين ودونالد ترمب لولاية واحدة. ففي حين تراجعت إدارة بوش عن التزامات خفض الانبعاثات وفق بروتوكول كيوتو، انسحب ترمب من اتفاقية باريس.
رسالة أوروبا إلى الرئيس بايدن صريحة، وهي أنها، إذ ترحب بعودة الولايات المتحدة إلى العمل المناخي الدولي، تعتبر نفسها قوة قائدة، لأنها لم تتنكر لالتزاماتها خلال 30 عاماً. وقد وجدت الصين في الدعوة الأوروبية فرصة لتوجيه رسالة إلى بايدن أيضاً، وهي أنها ترفض الخضوع لإملاءات أميركية بشأن المناخ وتحتفظ بحرية تحالفاتها. وبالفعل، أعلنت أوروبا والصين مسبقاً عن تعزيز الالتزامات المناخية، حتى لا يُقال إنها فعلت هذا في واشنطن بأوامر أميركية. ولكن الأكيد أن مبادرة بايدن نجحت في إعطاء قوة دفع غير مسبوقة للعمل المناخي المشترك، وتمخضت عن التزامات جديدة محددة، مما يعبّد الطريق الى القمة المناخية الدولية الـ 26 التي تعقد في غلاسكو نهاية السنة.
يُظهر هذا السباق المحموم أنّ الجميع أصبح يعترف بالنتائج الكارثية على العالم كلّه إذا لم يوضع حدّ سريع للتغيُّر المناخي، ولا أحد يريد أن يتحمّل مسؤولية الإخفاق. السبيل الأول للعلاج هو تخفيف الانبعاثات الكربونية وصولاً إلى الصفر، والعمل لامتصاص الفائض منها من الأجواء. هذا يقتضي اعتماد مزيج من الطاقة تكون فيه الحصة الأكبر للطاقة المتجددة الخالية من الانبعاثات الكربونية، إلى جانب الاستخدامات الأنظف لمصادر الطاقة التقليدية، بالتوازي مع تعزيز الكفاءة. وقد تكوّنت مؤخراً قناعة عامة بأن إدخال الهيدروجين كعنصر رئيسي لتخزين الطاقة النظيفة ونقلها هو عامل أساسي لتحقيق هذا الهدف سريعاً، إذ يمكن إنتاج الهيدروجين من كهرباء الشمس والرياح، وتخزينه لإنتاج الكهرباء في أي وقت.
الاجتماع السنوي السابع لحوار الطاقة، الذي استضافته وزارة الخارجية الألمانية في بون، تمحور حول الهيدروجين كوسيط للطاقة النظيفة، يمكن إنتاجه من مصادر متعددة. وعند استخدامه لتوليد الكهرباء بالامتزاج مع الأوكسيجين عبر "خلايا وقود" خاصة، تقتصر الانبعاثات منه على الماء النقي. وفي حين يمكن نقل الهيدروجين وتوزيعه في حالة غازية، عبر أنابيب مشابهة لشبكات نقل الغاز الطبيعي، فهو أيضاً قابل للتسييل والتخزين والنقل مضغوطاً. وقدّم وزير الاقتصاد والطاقة الألماني عرضاً لما يقوم به بلده لتطوير تقنيات جديدة فعّالة لإنتاج الهيدروجين واستخدامه، حيث تُخَصَّص ميزانيات كبيرة للبحث العلمي والابتكار، ودعم الصناعة للاستثمار في تطبيقات عملية تهدف إلى تعميمه، خاصة لتشغيل وسائل النقل وإنتاج الكهرباء. وأعلنت شركات كبرى عن مشاريع ضخمة قيد التنفيذ في ألمانيا لإنتاج الهيدروجين عن طريق التحلّل المائي. وهي الطريقة الأنظف، لكنها تتطلب كميات كبيرة من الكهرباء. لهذا تعتمد محطات الهيدروجين الألمانية على إمدادات الكهرباء من مصادر متجددة، خاصة الشمس والرياح، بعدما انخفضت كلفتها وعمَّ انتشارها. هذه البرامج الطموحة ستساهم، كما أكّدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، في تحقيق هدف "صفر كربون" قبل الموعد العالمي سنة 2050.
وقد كان الحضور السعودي القوي في "حوار برلين"، بمشاركة وزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان، دليلاً على الدور الجديد للمملكة كلاعب دولي رئيسي في سياسات الطاقة والمناخ. فهو قدَّم عرضاً لبرامج السعودية في الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة، إلى جانب التقاط الكربون وإعادة استخدامه في عمليات ومنتجات نظيفة أو تخزينه على نحو مأمون. وأوضح أن السعودية لا تنظر إلى البترول كمجرد مادة تُحرق لإنتاج الطاقة، بل كمادة أوّلية يمكن استخدامها لتصنيع عشرات آلاف المواد المفيدة. ولم تغِب عن حوارات المشاركين قدرة بلدان الشرق الأوسط المنتجة للنفط على استثمار موقعها المتميز في أغنى حزام شمسي في العالم لتصبح منتجاً ومصدّراً رئيسياً للطاقة المتجددة. ويلعب الهيدروجين دوراً كبيراً في هذا الهدف المستقبلي، إذ يمكن إنتاجه من الكهرباء الشمسية ومياه البحر وتصديره مسيّلاً ومضغوطاً إلى العالم في ناقلات عملاقة، أو في حالته الغازية إلى المناطق المجاورة، عبر شبكات أنابيب.
حوار الهيدروجين على الضفة الأخرى للأطلسي استضافه "معهد موارد المستقبل" في واشنطن، وقدّم فيه مجموعة من الخبراء العالميين عروضاً مفصّلة عن واقع تكنولوجيا الهيدروجين وآفاق استخدامه بكفاءة. يمكن إنتاج الهيدروجين بأساليب متعددة تُصنَّف وفق الألوان. "الهيدروجين البني" ينتج من عمليات "تغويز" الفحم الحجري، أي تحويله إلى غاز يحتوي على الهيدروجين المفيد، الذي يتم تجميعه، وثاني أوكسيد الكربون، الذي يُطلق في الأجواء. لكن الانبعاثات الكربونية المرتفعة، وهي 20 كيلوغرام من ثاني أوكسيد الكربون لإنتاج كل كيلوغرام من الهيدروجين، تجعل هذا الخيار عبثيّاً. أما "الهيدروجين الأزرق" فيتم إنتاجه من تفكيك الغاز الطبيعي، مع التقاط ما يصل إلى 90 في المائة من الكربون الناجم عن العملية. ويبقى "الهيدروجين الأخضر" الوسيلة الأنظف، التي تقوم على التحلّل المائي بواسطة الكهرباء المنتَجة من مصادر متجددة مثل الشمس والرياح، ولا تصدر عن العملية أية انبعاثات كربونية.
تكنولوجيا إنتاج الهيدروجين بالتحلّل المائي بلغت مراحل متقدمة في أوروبا، حيث تتركز معظم الاستثمارات والتطبيقات، وتتبعها آسيا وأوستراليا، فيما تقتصر السوق الأميركية على جزء يسير يقارب 12 في المائة من أوروبا. خلايا الطاقة التي تعمل بالهيدروجين متوافرة اليوم على مستوى تجاري، للاستخدام في وسائل النقل أو في معامل توليد الكهرباء. المطلوب تطوير البنى التحتية لتخزين الهيدروجين وتوزيعه، من الخزانات إلى الصهاريج والناقلات البحرية وشبكات الأنابيب، وصولاً إلى محطات توزيع المحروقات.
فهل يدخل الهيدروجين في سياسة الطاقة الأميركية الجديدة؟ وهل تتصدر الدول العربية النفطية سوق الهيدروجين العالمية في المستقبل، استناداً إلى موقعها الطبيعي المتميّز وخبرتها العريقة في إنتاج الطاقة وتسويقها؟
|