مع إطلاق مبادرتها الجديدة الخضراء، تمتشق المملكة العربية السعودية دوراً طال انتظاره، كلاعب أساسي في قضايا حماية البيئة والتصدّي لتغيُّر المناخ. فالدولة التي كانت عماد الاستقرار الطاقوي في العالم لعقود، تقتحم اليوم غمار خفض الانبعاثات الكربونية، المسبب الرئيسي للتغيُّر المناخي. وتعترف المبادرة ذات الشقّين، "السعودية الخضراء" و"الشرق الأوسط الأخضر"، بالترابط الوثيق في العمل البيئي بين المحلي والإقليمي والعالمي، إذ إن التحديات المشتركة لا تعترف بحدود. وتُنبئ المبادرة بأن السعودية لن تتوقف عند تحمُّل مسؤوليتها في المساعي الدولية وفرض موقعها كجزء من الحل، بل ستتعدى هذا إلى الدخول من الباب الواسع كشريك في ابتكار الحلول. وجاء الإعلان عن المبادرة في توقيت مناسب، قبل أسابيع من موعد القمة المناخية التي يستضيفها الرئيس الأميركي جو بايدن، والتي دعا إليها قادة 40 دولة، من بينها السعودية والإمارات.
لا تقتصر أهداف المبادرة السعودية على خفض الانبعاثات الكربونية المتأتية من نشاطات جديدة، بل تضع أيضاً خطة عملية لتخفيض تركيزات ثاني أوكسيد الكربون الموجودة في الأجواء، عن طريق امتصاصها في الغابات والبيئة البحرية. فقد تم الإعلان عن برامج لزراعة 10 مليارات شجرة، ما يوازي تأهيل 40 مليون هكتار من الأراضي السعودية، ويرفع مساحة المناطق الخضراء 12 ضعفاً. ويترافق هذا مع برامج لمعالجة مياه الصرف لاستخدامها في الري بأساليب تعتمد الكفاءة، فلا تذهب نقطة منها هدراً. كما تم الإعلان عن برامج لحماية النُظم البيئية الساحلية وزراعة الأعشاب البحرية وأشجار المنغروف، وهي مصارف للكربون، فضلاً عن دورها في تحسين نوعية المياه الساحلية ووظيفتها كدرع واقٍ من العواصف والفيضانات وارتفاع سطح البحر.
وإذ تسعى المبادرة إلى برامج مشتركة مع البلدان المجاورة، بما فيها زراعة 40 مليار شجرة إضافية وترشيد إدارة الموارد الطبيعية والحدّ من التلوّث، فقد باشرت القيادة السعودية، في اليوم الثاني لإطلاق مبادرتها، مباحثات مع رؤساء دول عربية وأجنبية، لشرح مكوّناتها وأهدافها والاتفاق على برامج تعاون لتنفيذها.
المبادرة الخضراء ترتكز إلى مبادئ الاقتصاد الأخضر، الذي يقوم على تحقيق أكبر مقدار من التنمية التي تصل فوائدها إلى الجميع، باستخدام أقل كمية من الموارد الطبيعية ووضع حدّ للهدر والتلويث. وهذا هو جوهر التنمية المستدامة، التي تؤمِّن الحاجات الحاضرة للبشر، مع الحفاظ على حقّ الأجيال المقبلة في حياة رغيدة تتوافر فيها الموارد الطبيعية الضرورية.
وكان تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، الذي صدر عام 2011 بعنوان "الاقتصاد الأخضر في عالم عربي متغيّر"، أطلق المفهوم الجديد على المستوى الإقليمي. وهو بحث فوائد اعتماد مبادئ الاقتصاد الأخضر ومتطلبات الانتقال إليه في ثمانية قطاعات، هي: الطاقة، المياه، إنتاج الغذاء، الصناعة، النقل والمواصلات، المدن والمباني، إدارة النفايات، السياحة. وقد وجد التقرير أن "تخضير" هذه القطاعات، أي تحقيق التوازن البيئي فيها، يحقّق فوائد جمّة تتعدّى حماية البيئة. فهو يضمن ترشيد استخدام الموارد الطبيعية وتجديدها، بما يكفل استمرار توافرها كعنصر حتمي للصناعة والاقتصاد. كما يخفف الانبعاثات الكربونية، فيساهم في التصدّي لتغيُّر المناخ. وفوق هذا كلّه، يخلق التحوّل إلى الاقتصاد الأخضر ملايين فرص العمل الجديدة. وقد اتهمتنا بعض الأوساط في ذلك الوقت بالترويج، تحت عنوان "الإقتصاد الأخضر"، لتدابير تضع قيوداً على الانبعاثات الكربونية وشروطاً بيئية على استخدام الوقود، مما يعيق النمو الاقتصادي.
المبادرة السعودية الخضراء جاءت رداً صارماً يأخذ الحقائق الموضوعية والمتغيّرات العالمية في الاعتبار، لبناء اقتصاد متوازن متنوّع، يحفظ حق الأجيال المقبلة في حياة كريمة. وقد توجَّه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى المشكّكين بكلام دقيق يعبّر عن وضوح الرؤية، إذ قال: "نرفض الاختيار المضلّل بين الحفاظ على الاقتصاد أو حماية البيئة، ونؤمن أن العمل لمكافحة التغيُّر المناخي يعزّز القدرة التنافسية ويطلق شرارة الابتكار، ويخلق الملايين من الوظائف".
هذا التوجّه الأخضر لا يأتي من فراغ، بل هو متابعة لتحوُّل جذري في السياسات التنموية، بدأ مع "رؤية السعودية 2030"، وهي استراتيجية شاملة اعتُمدت عام 2016. وكان من نتائجها إطلاق السعودية في قمة "مجموعة العشرين"، التي استضافتها الرياض في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مبادرة "اقتصاد الكربون الدائري" ذات المضمون الواقعي الجديد. ففي حين يقوم مفهوم "الاقتصاد الدائري" التقليدي على إدارة الموارد باعتماد ثلاثيّة تشتمل على تخفيف الاستهلاك، وإعادة الاستعمال، وإعادة التصنيع، فقد أدخلت المبادرة المستحدثة الكربون في العملية الدائرية، وجعلتها رباعية بإضافة مرحلة "الاسترجاع".
ويمثّل إدخال إدارة الكربون في المعادلة نظرة واقعية، إذ إن الوقود الاحفوري، خاصة النفط والغاز، سيبقى جزءاً من مزيج الطاقة خلال العقود المقبلة، مما يحتّم إيجاد سبل للتحكم بانبعاثاته الضارة. ويقوم مفهوم اقتصاد الكربون الدائري على تخفيف كميات الكربون المنبعثة من مصادر الإنتاج والاستهلاك، والتقاط ما يتبقى منه قبل انبعاثه في الأجواء، وذلك لاستخدامه في عمليات لإنتاج مواد أخرى مفيدة، أو تخزينه على نحو مأمون. والجديد في المبادرة العمل على استرجاع الكميات الفائضة من الكربون الموجودة في الأجواء، عن طريق امتصاصها طبيعياً في الغابات والنظم البحرية.
وتظهر جّدية المبادرة في الأبحاث العلمية التي تقودها جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) في مجالات التقاط الكربون وإعادة استخدامه وتخزينه، إلى جانب أبحاث أخرى في الطاقة النظيفة والمتجددة. وتتميز المبادرة في أنها تتعدى العموميات إلى الالتزام بأرقام ومواعيد محدّدة للتنفيذ. فإلى جانب المليارات العشرة من الأشجار، تتضمن المبادرة رفع نسبة المناطق المحمية إلى 30 في المائة من مساحة أراضي السعودية، والمساهمة بأكثر من 4 في المائة من الحصّة العالمية لتخفيض انبعاثات الكربون، وتخفيض كمية النفايات المرسلة إلى المطامر بنسبة 94 في المائة، وتوليد نصف الاحتياجات الكهربائية من مصادر الطاقة المتجددة بحلول سنة 2030، وتخفيض الانبعاثات الكربونية الناتجة عن إنتاج النفط بنسبة 60 في المائة.
كما ساهمت السعودية خلال العقود الماضية في جهود التنمية العالمية من خلال الحفاظ على استقرار إمدادات النفط، بالتوازي مع إخراج مئات ملايين البشر من فقر الطاقة، فهي تدرك الآن حجم نصيبها من المسؤولية في العمل لحماية البيئة ومكافحة تغيُّر المناخ. وقد عبّر ولي العهد السعودي عن هذا بوضوح في تأكيده أنه "مثلما تَمثَّل دورنا الريادي في استقرار أسواق الطاقة خلال عصر النفط والغاز، فإننا سنعمل لقيادة الحقبة الخضراء القادمة... لأن الجيل الصاعد يطالب بمستقبل أنظف وأكثر استدامة، ونحنا مدينون له بتقديم ذلك".
كعاملين في مجالات البيئة والتنمية المستدامة، لا يمكن أن نضيف، لأن هذا التوجُّه يمثل أقصى ما كنا نطمح إليه. فحين تتحوَّل الأفكار والتوصيات إلى سياسات وطنية، لا يسعنا إلا أن نصفّق وندعم وننتظر بأمل.
نجيب صعب، الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة "البيئة والتنمية"