حفل عام 2020 بقضايا بيئية كبرى. وما كان لجائحة "كورونا" إلّا أن تُبرز أموراً كانت مهملة من قبل، وتعيد ترتيب الأولويات.
فقد نتج عن تراجع النشاط الاقتصادي وحجر مئات الملايين في منازلهم انخفاض موقت في الانبعاثات الكربونية. وتبيَّن أنَّ السكان في المناطق ذات الهواء الملوّث كانوا أكثر عرضة للاصابة بفيروس كورونا مع مضاعفات حادّة، لأن كثافة التلوث تساعد على انتقال أسرع للفيروس، كما أن ضعف الجهاز التنفسي الذي يتسبب به تلوُّث الهواء يخفف من مستوى المناعة عند المصابين. وفي حين أدّت الجائحة إلى تقليل كميات النفايات الصلبة المنزلية والصناعية، فقد كان أثرها السلبي أكبر، نتيجة الخلل الذي أحدثته في أنظمة إدارة النفايات ومضاعفة كميات المخلفات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد. وأعادت الجائحة التنبيه إلى أخطار الأمراض المنتقلة من الحيوان إلى الانسان، بسبب سوء التعامل مع الطبيعة والإخلال بتوازناتها.
وتميزت السنة بحرائق غير مسبوقة في الغابات، ضربت الولايات المتحدة والدائرة القطبية والأمازون وأوستراليا وأفريقيا، وصولاً إلى لبنان وسورية. وربط الخبراء الانتشار الواسع للحرائق بارتفاع قياسي في درجات الحرارة نتيجة للتغيّر المناخي المستمر. كما عانى التنوع الحيوي من تدهور غير مسبوق، تمثل في انقراض عدد كبير من الأنواع الحيوانية والنباتية. واستمرت مشكلة هدر الطعام وضعف كفاءة استخدام الطاقة والمياه. وازدادت حدة التلوث في المحيطات، خاصة من جزيئات البلاستيك الصغيرة.
لكن المشكلة العالمية الأكبر تبقى التغيّر المناخي، إذ كانت 2020 بين السنوات الثلاث الأعلى حرارة في التاريخ، علماً أنها حصلت كلها خلال السنوات الخمس الأخيرة. وإذا كان البعض يعتقد أن الحدث المناخي الأكبر خلال 2020 كان خروج الولايات المتحدة من اتفاقية باريس المناخية، بناءً على قرار تنفيذي من الرئيس دونالد ترمب، فهي تميزت أيضاً بتأكيد الدول الأخرى التزامها باتفاقية باريس، وفتح الباب لخروج ترمب من البيت الأبيض بعد فوز جو بايدن بالرئاسة وتعهّده بإعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاقية وتفعيل الالتزامات المناخية الدولية فور تسلّمه زمام الرئاسة.
ويبقى العمل الدولي للحدّ من الانبعاثات الغازية المسببة لثقب الأوزون، عن طريق وقف استخدام مركّبات "الكلوروفلوروكربون"، واحداً من قصص النجاح الكاملة القليلة التي يمكن سردها في إطار المساعي لحماية البيئة. ويعود نجاح اتفاقيات الأوزون إلى أنها ترافقت مع برنامج متكامل لتمويل انتقال الدول الفقيرة إلى استخدام مركبات بديلة نجح العلم في تطويرها، ومنها الغازات المستخدمة في مكيفات الهواء.
هذه كلها قضايا مهمة تشغل العالم، ولا بد للبلدان العربية من أن تشارك في المساعي لحلّها. لكن تغيّر المناخ وثقب الأوزون والتنوع البيولوجي يجب ألّا تحجب تحدّيات بيئية محلية تنتظر حلولاً سريعة، إذ إنها تؤثر مباشرة على صحة الناس ونوعية حياتهم.
للانفجار الهائل الذي وقع في مرفأ بيروت ودمّر أجزاءً كبيرة من المدينة خلفيات وآثار بيئية. فالتخزين العشوائي لكمية 2700 طن من مادة نيترات الأمونيوم المتفجرة لسنوات وسط المدينة، بدون أية إجراءات احترازية، كشف هشاشة أنظمة إدارة المواد الخطرة في دول عربية عدة، لا في لبنان فقط. فقد نبّه الانفجار السلطات في العراق وسورية والأردن وغيرها إلى الكشف على المواد المخزنة عشوائياً في معابرها الحدودية، البحرية والبرية والجوية، حيث اكتُشفت مئات الشحنات المهملة التي تشكّل قنابل موقوتة. كما أبرز انفجار بيروت ضعفاً بنيويّاً في معاهدات بازل وروتردام واستوكهولم، التي يُفترض أن تراقب حركة النفايات والمواد الخطرة عبر الحدود وتخزينها والتخلص منها. فرغم مرور أكثر من ست سنوات على شحن نيترات الأمونيوم ذات التركيز المستخدم في صناعة المتفجرات، من أوكرانيا إلى بيروت عبر تركيا، بسفينة قبطانها روسي، وبوجهة نهائية مفترضة إلى موزمبيق، لم تتنبه إدارات هذه المعاهدات الدولية إلى وجود مخاطر وشبهات جرمية. والمشكلة أن سكرتاريات هذه المعاهدات لا تتحرك إلّا بطلب من الحكومات. فماذا لو كانت الحكومات نفسها متورّطة، بالفعل أو بالاهمال؟
بعد كارثة بيروت، لا عذر للدول العربية في التأخير بوضع موضوع إدارة النفايات والمواد الخطرة في رأس الأولويات، مع برامج عملية فاعلة لمواجهة الكوارث، أكانت ناجمة عن ظروف طبيعية أم أخطاء بشرية.
وبينما نتحدث عن قضايا بيئية كونية كبرى، علينا أن نضع على جدول أعمال سنة 2021 أهدافاً تتعلق بتحديات محلّية تواجهها الدول العربية. فمسؤولية هذه المشاكل محلية، ومعالجتها في متناول اليد.
من هذه المشاكل معضلة المياه، علماً أن 50 مليون عربي يفتقرون إلى مياه الشرب المأمونة ولا تصل شبكات الصرف الصحي إلى 74 مليوناً. ويترافق الفقر في مصادر المياه العذبة مع معدلات في هدر المياه هي بين الأعلى في العالم. لذا يجدر بالدول العربية أن تضع هدفاً لسنة 2021 لتخفيض هدر المياه إلى النصف، ورفع معدلات الكفاءة 50 في المائة، وهذا يبدأ بزيادة معدّلات معالجة المياه المبتذلة وإعادة استعمالها للري وأغراض بلدية أخرى، فلا تذهب نقطة مياه هدراً.
في مجال الطاقة، ليكن هدف 2021 تسريع برامج الكفاءة بمعدل 50 في المائة وتنويع المصادر وتوسيع الاستخدامات الأنظف للطاقة التقليدية، مع تعزيز مساهمة الطاقات المتجددة في مزيج الطاقة. وفي هذا الإطار يدخل دعم النقل العام، ووضع معايير مشدّدة لكفاءة الوقود في السيارات، وتشجيع استخدام السيارات الكهربائية الخالية من الانبعاثات، عن طريق توفير البنى التحتية لها، وبناء مسارات مخصصة للمشاة والدراجات الهوائية.
وفي موازاة المشاركة في المؤتمرات الدولية حول تخفيض تلوُّث البحار بمخلفات الميكرو-بلاستيك، على الدول العربية أن تضع حدّاً لتصريف مياه المجارير في البحر، حيث يتم التخلُّص من 12 مليار متر مكعب منها سنوياً بلا معالجة. أما إدارة النفايات فتبدأ من التخفيف في المصدر، إذ تصل كمية النفايات اليومية للفرد في بعض الدول العربية إلى كيلوغرامين، وهي بين الأعلى في العالم. فيجدر العمل خلال السنة الجديدة على تخفيفها تدريجاً للوصول إلى النصف، عن طريق برامج تدمج التوعية مع رسوم على النفايات وفق كميتها.
وفيما نتحدث عن تغيُّر المناخ بسبب انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، نكاد ننسى تلوث هواء بلداننا بالكبريت وأوّل أوكسيد الكربون والأوزون الأرضي وأوكسيدات النيتروجين، وهي ذات مستويات مرتفعة في كثير من بلدان المنطقة، وتؤثر مباشرة على صحة السكان.
على الدول العربية أن تضع أهدافا بيئية محلية ملحَّة على جدول الأعمال لسنة 2021، الى جانب المشاركة في المساعي لحل المشاكل العالمية. إذ ماذا ننتفع إذا ربحنا العالم وخسرنا أنفسنا؟