حين يخرج الرئيس دونالد ترامب من البيت الأبيض بعد شهرين، تخرج معه بعض القرارات التنفيذية التي اتخذها فرديّاً، مستخدماً صلاحياته الرئاسية، وفي طليعتها ما يتعلق بالتغيُّر المناخي والبيئة. وقد كتبنا عن قرار ترامب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس المناخية أنه يمثّل حالة عابرة، بينما التغيُّر المناخي حقيقة علمية راسخة. وإذا كان مؤكداً أن مواقف ترامب أخّرت العمل الدولي في مواجهة التغيُّر المناخي، لكنها لم تحظَ بدعم من الدول الأخرى الفاعلة، التي لم تنسحب أي منها من الاتفاقية.
الرئيس المنتخب جو بايدن وضع العودة إلى اتفاقية باريس في رأس أولوياته. وهذا يعني أن الولايات المتحدة ستعود قريباً عضواً كاملاً في الاتفاقية. لكن موقف بايدن يتخطى حدود الاتفاقية. فقد وُصفت خططه لمواجهة التغيُّر المناخي بأنها الأكثر طموحاً لمرشح رئاسي حتى الآن. وستكون السياسات البيئية الداخلية المحك الحقيقي لإثبات الجدّية. تقوم خطة بايدن على الوصول إلى إنتاج الكهرباء بلا انبعاثات كربونية على الإطلاق بحلول سنة 2035، وتحقيق صفر انبعاثات من جميع القطاعات بحلول سنة 2050. هذا هدف غير مسبوق أميركيّاً، مع أنه يقلّ عما جاء في "الصفقة الخضراء الجديدة" التي قدمها أعضاء ديموقراطيون في الكونغرس بداية هذه السنة، وتنصّ على الوصول إلى "صفر انبعاثات" بحلول سنة 2030. وإذا كان لا بدّ من استمرار بعض الانبعاثات، فيجب التعويض عنها بوسائل أخرى، مثل زراعة الغابات لامتصاص الكربون أو التقاط الكربون وتخزينه على نحو مأمون.
ينص مشروع بايدن على تخصيص 2 تريليون دولار خلال 4 سنوات لرفع مستوى كفاءة الطاقة في 4 ملايين وحدة سكنية. وفي مجال وسائل النقل، يعزّز المشروع وسائل النقل العام المشترك، كما يخصّص ميزانيات ضخمة لدعم تصنيع السيارات الكهربائية وإنشاء عشرات آلاف مراكز الشحن الكهربائي، ومنح حوافز للمستهلكين للتحوّل من السيارات العادية إلى السيارات الكهربائية. وهذا ينسجم مع خطط معظم الدول الأوروبية لوقف إنتاج السيارات العاملة على الوقود خلال فترة تراوح بين 10 إلى 15 سنة. وإلى كفاءة الأبنية ووسائل النقل، تدعم الخطة توسيع إنتاج الطاقة المتجددة واستخداماتها، واعتماد حلول مستدامة في الإنتاج تحافظ على التوازن في الموارد الطبيعية بتجديدها بدلاً من استنزافها وهدرها. كما تَعِد خطة بايدن بإعادة تفعيل قانون الهواء النظيف وغيره من القوانين التي أوقفتها إدارة ترامب أو خفّضت معاييرها. كل هذه التدابير تحافظ على سلامة البيئة وتقلِّص الانبعاثات الكربونية المسبّبة لتغيُّر المناخ، لكنها أيضاً تخلق ملايين فرص العمل الجديدة.
اتفاقية باريس، التي صادقت عليها إدارة الرئيس باراك أوباما عام 2016، تلتزم باتخاذ تدابير لخفض الانبعاثات الكربونية بما يضمن عدم تجاوز ارتفاع معدلات الحرارة فوق درجتين مئويتين مع نهاية القرن، وهذه كانت أفضل تسوية أمكن التوصّل إليها في ذلك الوقت. خلال السنوات الأربع الماضية، وجد العلماء بالدليل القاطع أن هذا لا يكفي، إذ إن حماية الدول الجزرية الصغرى من الغرق يستدعي وقف ارتفاع معدلات الحرارة عند درجة ونصف الدرجة. وهذا يتطلب تخفيضاً أسرع وأكبر في الانبعاثات الكربونية عما أقرّته قمة باريس. انتخاب بايدن يدعم تحقيق هذا الهدف، وهو يتلاقى في هذا مع ما التزمت به الصين ودول الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية واليابان، التي تمثّل، مع الولايات المتحدة، ثُلثي حجم الاقتصاد العالمي ويصدر عنها أكثر من نصف الانبعاثات الكربونية. هكذا، أصبح تحقيق هدف درجة ونصف الدرجة في المتناول للمرة الأولى، نتيجة انتخاب بايدن.
إلا أن بايدن يحتاج إلى دعم مجلس الشيوخ والكونغرس. وفي حين يسيطر الحزب الديموقراطي على الكونغرس، علينا انتظار الانتخابات التكميلية لآخر مقعدين في مجلس الشيوخ في يناير (كانون الثاني) المقبل لمعرفة لمن تكون الأكثرية الضئيلة فيه. لكن ترامب واجه الوضع نفسه، إذ سيطر الديموقراطيون على الكونغرس خلال ولايته، فالتف عليه بإصدار قرارات تنفيذية رئاسية. هذا النوع من القرارات يمكن الاعتراض عليه في المحكمة العليا. لكنها مسألة طويلة تحتمل التسويات، وغالباً ما يحصل تفاهم.
تنصّ اتفاقية باريس المناخية على أنه بعد شهر من التبليغ، تصبح الدولة "العائدة" عضواً كاملاً مرة أخرى. لذا، من المنتظر أن تستعيد الولايات المتحدة مقعدها في شباط (فبراير) 2021. وهذا يعطيها الوقت الكافي للمشاركة في التحضيرات لقمة المناخ الـ26 التي تعقد في غلاسكو في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، بعد تأجيل موعدها سنة بسبب وباء كورونا. مع انتخاب بايدن، من المتوقع أن تكون هذه أهم قمة مناخية حتى الآن، فتصدر عنها التزامات بتخفيض سريع للانبعاثات، لتصل إلى الصفر قبل سنة 2050.
رغم الاضطرابات السياسية والتحديات الاقتصادية التي فرضها وباء كورونا، لم تلتحق الاقتصادات العالمية الكبرى بإدارة ترامب حين تخلّت عن الالتزامات المناخية. حتى أن خطط التعافي من كورونا وَضعت في صلب بنودها التحوُّل إلى الاقتصاد الأخضر المنخفض الكربون. وفي حين روّج أعضاء "الحرس القديم" في بعض الدول العربية أن انسحاب ترامب يُفسح في المجال للتخلي عن تدابير كفاءة الطاقة والتحوُّل إلى الطاقة المتجددة وأساليب الإنتاج النظيفة، لم تلقَ هذه النظريات آذاناً صاغية لدى الحكومات. لذا، سرّعت الدول العربية المنتجة للبترول برامجها للتحوّل الاقتصادي، وذلك بإدخال نشاطات منتجة تتعدى النفط والغاز، وتقوية برامج الكفاءة، وتخصيص ميزانيات ضخمة لمشاريع الطاقة المتجددة والنظيفة. وتجلّى هذا التوجه خاصة في تحضيرات الرئاسة السعودية لقمة العشرين، التي تعقد اليوم، والتي تبنّت التوجه نحو النمو المستدام والاقتصاد الأخضر.
هذه القرارات وضعت الدول العربية النفطية في موقع يؤهلها للمساهمة الفاعلة في سياسات التحوّل العالمية نحو اقتصادات قليلة الكربون. واستثماراتها الضخمة في الطاقة المتجددة كفيلة بحجز مكان لها في صدارة السوق كلاعب رئيسي في مستقبل الطاقة.
لقد أحسنت الدول النفطية العربية، وفي طليعتها السعودية، حين عملت وفق الحقائق العلمية الثابتة لا السياسات الفردية العابرة.
|