كشفت نكبة بيروت تقصيراً فاضحاً في التعامل مع المواد الخطرة، ليس في لبنان فقط، بل في غيره من الدول العربية أيضاً. فقد ذكّر الانفجار الحكومة العراقية بوجود مستوعبات مجهولة المحتوى متروكة على حدوده. ولفت الانتباه إلى ناقلة النفط المهترئة التي يحتجزها الحوثيون منذ سنوات مقابل ميناء الحديدة اليمني، وهي ما تزال محمّلة بأكثر من مليون برميل من النفط الخام، يهدّد غرقُها بتسرُّب نفطي في البحر الأحمر يفوق أي كارثة نفطية في العالم. وبدأت مصر حملة لجرد كل المواد الخطرة، الكيميائية والمتفجرة، المخزّنة في موانئها ومطاراتها، لنقلها إلى مواقع بعيدة آمنة.
لن نبحث هنا كيف دخلت هذه الكمية الهائلة من نترات الأمونيوم إلى ميناء بيروت، ولمصلحة من تمّ استيرادها، ولأيّ استعمال. فهذا أمر متروك لتحقيق جنائي في جريمة موصوفة ضد الإنسانية. موضوعنا هو أصول التعامل مع المواد الخطرة والاستعدادات لمواجهة الكوارث. ولم نكن إطلاقاً بحاجة إلى نكبة بيروت لنكتشف وجوه التقصير في هذه الأمور والتعامل بخفة معها، بينما المطلوب وضع معايير واضحة وتطبيقها بشفافية وحزم.
تُنافس تجارة النفايات السامة والخطرة تجارة المخدرات والأسلحة في الحجم والانتشار. وهذا ما استدعى وجود آليات دولية لإدارة الموضوع، أبرزها "اتفاقية بازل" بشأن التحكّم في نقل النفايات الخطرة عبر الحدود و"اتفاقية روتردام" بشأن المواد الكيميائية الخطرة. لكن النصوص شيء والتطبيق شيء آخر. فليس لهذه الاتفاقيات أدوات إجرائية، بل تقتصر آلياتها التنفيذية على أمانات عامة صغيرة لا تتحرك إلا بطلب من الحكومات. هل كانت إدارات هذه الاتفاقيات على علم بشحنة نترات الأمونيوم الضخمة عام 2013 ومحتوياتها الحقيقية ووجهتها؟ وهل تم إبلاغها بتخزينها في وسط بيروت كلّ هذه المدة؟ وإذا كانت قضية كبيرة بهذا الحجم غائبة عن معرفتها واهتمامها، فما هي مهمتها؟
ليست هذه المرة الوحيدة التي يواجه فيها لبنان مسألة التداول في المواد الخطرة. فقبل خمس سنوات، تفتّق الفكر التجاري لدى بعضهم على حلّ لمشكلة النفايات قضى بتصديرها. ولم يوقف الصفقة إلا استقصاءات قامت بها جهات غير حكومية، كشفت أن الشركات المزعومة كانت وهمية، ووجهة التصدير غير معروفة، والوثائق التي قُدّمت مزوّرة. القانون الدولي يسمح بتصدير النفايات فقط إلى بلدان تمتلك القدرة على معالجتها بشكل سليم، بينما تَبيّن أن تجّار الموت ووكلاءهم أرادوا التخلص منها في دول فقيرة، بالتنسيق مع عصابات محلية، لجني أرباح بمئات الملايين. في تلك الحالة أيضاً، لم تنفع الاتفاقيات الدولية في وقف الجريمة، بل أوقفتها هيئات غير حكومية أخذت المتابعة الجدية على عاتقها.
في قصة تصدير النفايات، التي كان الجرم فيها واضحاً والمجرمون معروفين، لم تتمّ محاسبة أي من المتورّطين، بينما إدارة الحكم الرشيدة تقوم على المحاسبة. فلا عجب، في غياب المحاسبة، أن تبقى آلاف الأطنان من المواد الكيميائية الخطرة، أو ما بقي منها، مدة ست سنوات في مستودع وسط مرفأ بيروت، نتيجة للإهمال والتواطؤ. ومن الغباء الاعتقاد أن السبب الوحيد هو الإهمال. فمن يصدّق أن التستُّر على آلاف الأطنان من المتفجرات الكيميائية، التي تبلغ قيمتها ملايين الدولارات، كان فقط بسبب الإهمال، هو كمن يريد إقناعنا بأن تصدير النفايات السامة إلى الدول الفقيرة هو مجرد خدمة إنسانية تقوم بها جمعيات خيرية.
المفارقة أن مديري الجمارك، الذين تغاضوا عن المواد المتفجرة المستوردة والمخزّنة منذ سنوات، وهم مسؤولون عن كل ما يتم استيراده من الخارج، وجدوا الوقت الكافي منذ أسابيع للكشف، في حملات استعراضية، على مستودعات للدجاج المحلي، وهو خارج صلاحيتهم، بينما تقاعسوا عن التعامل بجدية مع قضية تقع ضمن صلاحيتهم المباشرة. فلو فحصوا نترات الأمونيوم عند وصولها كما فحصوا الدجاج، لوجدوا أنها ليست أسمدة زراعية، بل مواد متفجرة، كما أظهرت نتائج فحوص لدرجة التركيز أُجريت لاحقاً ولم يُعلن عنها.
قبل كارثة بيروت، كنّا نُعدّ تقريراً مفصلاً عن معالجة الأنقاض التي خلّفتها الحروب والمعارك في العراق، ليُنشر في صفحة البيئة المقبلة. وقد اتفقنا في الرأي مع خبراء الأمم المتحدة الذين عملنا معهم على ضرورة الاستفادة من تجربة لبنان، بعد الحرب الأهلية، في التعامل مع عشرات ملايين الأطنان من الأنقاض الناجمة عن الأبنية المهدّمة. فقد تم في بداية التسعينات طحن أنقاض بيروت، وفصل الحديد عن الاسمنت والحجارة، وإعادة استخدام كثير من المواد. لم نكن نتصوّر، في أسوأ كوابيسنا، أن الأنقاض ستغطي بيروت من جديد.
نتج عن الانفجار نحو مليوني متر مكعب من أنقاض الأبنية، تتضمن الاسمنت والحجارة والحديد والزجاج. وقد تولّت فرق من المتطوّعين الشباب المساعدة في رفع الأنقاض من الطرق والمنازل والمكاتب المتضررة. لكن في غياب خطّة حكومية لإدارة الكوارث، لم يتم فصل الزجاج عن المواد الأخرى، لتسهيل معالجتها والاستفادة منها. وتقدَّر مساحة الزجاج المتطاير ضمن قطر تجاوز 10 كيلومترات بنحو 15 مليون متر مربع، وزنها 250 ألف طن. خلال 15 ثانية دمَّر انفجار واحد ما دمرته الحرب على مدى 15 عاماً في هذه المنطقة من بيروت، التي لم يُخفِ بعضهم حقدهم عليها، وكأنهم يكرهون كل ما هو جميل.
بينما تلملم بيروت جراحها، وتعيد دول الجوار النظر في تدابير تخزين المتفجرات والكيماويات، على الحكومات الاهتمام سريعاً بوضع معايير صارمة لاستيراد المواد الخطرة وتصديرها، وتعزيز الأمن الصناعي، واعتماد خطط فاعلة لإدارة الكوارث. وعلى المجتمع الدولي تفعيل دور المنظمات المعنية بتطبيق الاتفاقيات الدولية التي تحكم نقل النفايات والمواد الكيميائية السامة وتخزينها، لئلا تتحول إلى شاهد زور، يقتصر دوره على انتظار ورقة العزاء للمشاركة في مراسم الدفن.
|