وسط الأخبار عن أعداد الموتى والمصابين والمتعافين، صعوداً وهبوطاً، وظهور موجات جديدة من فيروس "كورونا"، نكاد لا نتنبه إلى أخبار رائعة تُثبت أنّ إرادة الحياة والتقدّم هي الأقوى من أي جائحة أو كارثة.
على المستوى البيئي، لفتني مؤخراً حدثان بارزان.
فقد أنجزت دبي تركيب أكبر برج في العالم لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية المركَّزة، وذلك ضمن خطة تهدف إلى اعتماد دبي على مصادر الطاقة النظيفة بنسبة 75 في المائة مع حلول سنة 2050. وتكمن أهمية هذه التقنية في قدرتها على تخزين الحرارة لإنتاج الكهرباء بعد غياب الشمس. واللافت أن الشركاء في المشروع، إلى جانب "صندوق طريق الحرير" الاستثماري الصيني، هيئة كهرباء ومياه دبي وشركة "أكواباور" السعودية.
بعد يوم واحد على الحدث الاستثنائي في دبي، خرج من السعودية أوضح تأكيد حتى اليوم على التزامها التحوُّل إلى أنماط الاقتصاد الأخضر وتسريع تنفيذ البرنامج المعلن لكفاءة الطاقة وتوسيع استخدامات الشمس والرياح كمصدرين نظيفين لإنتاج الكهرباء. ففي ندوة تحضيرية لاجتماعات قمة العشرين، التي تستضيفها الرياض في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، أعلن وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان أن السعودية ستعطي الأفضلية لتعزيز كفاءة الطاقة وتوسيع استخدامات الشمس والرياح خلال السنوات العشر المقبلة. ولن تقتصر الكفاءة على تقليل الكميات المستهلكة، بل ستسهم في التوصُّل إلى زيادة الناتج الصناعي والزراعي والخدماتي، وتعزيز رفاهية الناس في منازلهم، وتحسين وسائل الاتصال والمواصلات، بتحقيق المعادلة التي تقوم على رفع نوعيّة الحياة بالتوازي مع خفض التلوّث والانبعاثات الكربونية. وإلى جانب تعزيز الكفاءة ووضع حدّ للهدر، ستلعب الطاقات المتجددة دوراً محوريّاً في تحقيق أهداف التنمية.
كان تحويل وزارة النفط السعودية إلى وزارة للطاقة إيذاناً بمرحلة جديدة، يصير فيها النفط جزءاً من مزيج الطاقة، بحيث تتنوّع مصادرها مع تنويع الاقتصاد. وفي إشارة إلى وجه جديد في خطة التحوّل الاقتصادي السعودية، أكّد الأمير عبدالعزيز الالتزام بتطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري، بترشيد الاستهلاك وتخفيف كمية المخلفات والحدّ من هدر الموارد وإعادة التصنيع والاستعمال، للمحافظة على البيئة والمساهمة في المساعي العالمية للحدّ من الانبعاثات الكربونية المسببة لتغيُّر المناخ.
وبدلاً من أخذ الضغوط القهرية التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي اليوم حجّةً لتخفيف الاهتمام بالبيئة، قال الأمير عبدالعزيز إن الجائحة تدعو إلى مزيد من تتبُّع الأسباب والآثار البيئية وخلق فرص بديلة من أجل تنمية متوازنة تعزّز صحة الناس والبيئة. ولعل أبرز ما جاء في كلام الوزير تحذيره من أن "الاحتفال بانخفاض الانبعاثات الكربونية بسبب الجائحة لن يدوم طويلاً، وعلينا العمل على حلول دوليّة للتصدّي لظاهرة التغيُّر المناخي". وقد قصدتُ تكرار ذكر وزير الطاقة السعودي خلال الإشارة إلى كلامه، لئلا يظنّ القارئ أنه نقل لكلام ناشط بيئيّ أو رئيس منظمة بيئية.
وفي خضم الأخبار المقلقة، مرّ في الصحف خبر عابر عن موافقة المجلس الأعلى للجامعات في مصر على إدراج الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية ضمن الموضوعات المقبولة لشهادة الماستر. كما أعلنت وزيرة البيئة المصرية عن تسليم وزارة التربية والتعليم الدفعة الأولى من المواد المتعلقة بمفاهيم البيئة العالمية في موضوعات تغيُّر المناخ والتنوّع البيولوجي والتصحُّر، لدمجها في المناهج التعليمية لجميع المراحل المدرسية، إضافةً إلى دمج البيئة في الأنشطة الدراسية الميدانية خارج الصفوف. وكان المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) قدّم العام الماضي، بطلب من الوزارة المصرية، دليل التربية البيئية والنشاطات اللاصفية، بنسختيه المطبوعة والرقمية، لاستخدامه في المناهج المدرسية.
ولم يمنع الانشغال بإيجاد لقاح فعّال وأدوية ناجعة للوباء المستجد من استمرار العلماء في العمل على تطوير منتجات صديقة للبيئة، وأحدثها بديل عن البلاستيك يمكن إنتاجه من أعشاب البحر. هذه المادة القابلة للتحلُّل يمكن استخدامها بديلاً عن الأكياس ومواد التغليف ذات الاستعمال الواحد، التي تشكّل إحدى أبرز الملوّثات، خاصة في المحيطات.
ومن الأخبار الإيجابية، التي عبرت أخيراً من دون اهتمام يُذكر، دراسة من جامعة كاليفورنيا أظهرت أن نصف كوكب الأرض سليم ولم يتعرّض بعد للتدخُّل البشري. فإذا كانت النشاطات الانسانية تلاعبت بجزء كبير من الأرض ودمّرت الكثير من مواردها، فما يزال لدينا نصف آخر من مساحة الأرض قادر على دعم الحياة البشرية. الرسالة من هذه الدراسة أنه ما برح لدينا الكثير لنحافظ عليه ونمنع عنه التدمير، إلى جانب إصلاح النصف الآخر الذي تم تخريبه.
حين نصل إلى يوم يتحدّث وزير الطاقة في أكبر دولة نفطية وخبراء البيئة على الموجة نفسها، نعرف أننا على الطريق الصحيح. فالتنمية المستدامة تقوم على العمل مع الطبيعة لا ضدّها، كما أنه لا معنى لرعاية البيئة بمعزل عن التنمية المتوازنة الساعية إلى رفعة الإنسان.
هل كان لجائحة "كورونا" دورٌ في تحفيز كل هذه الأفكار والمبادرات الإيجابية؟ الأكيد أنها علمتنا التواضع تجاه جبروت الطبيعة، كما علّمتنا أنّ إرادة الحياة والتقدّم هي الأقوى، رغم كلّ الانكسارات.