في 22 أبريل (نيسان) عام 1970، خرج 20 مليون أميركي إلى الشوارع والساحات، مطالبين بتدابير جدّية لرعاية البيئة وحماية الطبيعة. هذه الانتفاضة، التي ما برحت حتى اليوم الحدث الجماهيري الأضخم في العالم، أجبرت الإدارة الأميركية على المباشرة بوضع قوانين لمنع التلوّث وصون الموارد الطبيعية.
خلال 50 عاماً، تحوَّل "يوم الأرض" إلى مناسبة سنوية تغطي 192 بلداً. وهو تزامن مع مبادرات أخرى أطلقت الحركة البيئية العالمية الحديثة. فعقب مؤتمر استوكهولم حول البيئة البشرية عام 1972، أُنشئ برنامج الأمم المتحدة للبيئة، الذي يقود العمل البيئي الدولي منذ ذلك التاريخ. وفي السنة نفسها، أصدر "نادي روما" تقريره الشهير بعنوان "حدود النموْ"، الذي حذّر من أن قدرة الأرض على توفير الموارد واستيعاب الفضلات للمليارات المتزايدة من السكان يتضاءلان، وهما على طريق الوصول إلى حدّهما الأقصى.
التوقعات التي أُطلقت مع "يوم الأرض" الأول وتقرير "نادي روما" قبل نصف قرن كانت تحذّر من قرب نهاية العالم. فهي توقّعت انفجاراً سكانياً واستهلاكياً مع حلول عام 2000، يؤدي إلى نضوب الموارد، والمجاعة، والتلوّث الذي يقتل الملايين، والانقراض الجماعي.
لقد دأب المشككون على النظر إلى هذه التوقعات المتطرّفة بكثير من الحذر، بلغ أحياناً حدود التهكّم. صحيح أن هذه التوقّعات لم تتحقق كلياً، لكنها كانت السبب في وضع حدّ للتدهور، لأن التحذيرات التي أُطلقت في سبعينات القرن الماضي كانت المحرّك الرئيسي لتغيير إيجابي. فكثير من الحكومات استمعت إلى صوت العلم والناس، ووضعت قوانين لنظافة الماء والهواء وحماية الحياة الفطرية. وتم إنشاء المنظمات البيئية الدولية ووزارات البيئة ومراكز الأبحاث البيئية وآلاف هيئات المجتمع المدني الفاعلة. كما وُضعت عشرات المعاهدات والاتفاقات الدولية لرعاية البيئة. لذا يمكن القول إنه لولا ردود الفعل العملية على التحذيرات، لكانت معظم التوقعات المتطرّفة تحققت.
الخوف من المجاعة دفع إلى الاهتمام بالأمن الغذائي ووضع حدود للانفجار السكاني، بدلاً من التركيز فقط على زيادة كمية الإنتاج. وشهدت السنوات الأخيرة بداية ثورة في الزراعة، أدخلت مفاهيم الكفاءة وتحسين الإنتاجية وتبديل أنماط الاستهلاك كعناصر أساسية لتحقيق الأمن الغذائي. واستجابةً لتحذير العلماء من نضوب إمدادات النفط والغاز مع حلول عام 2000، طوّر الإبداع الانساني أنظمة فعّالة لكفاءة الاستخدام ومصادر متجددة للطاقة، مما سمح بعبور حاجز القرن العشرين من دون نضوب الموارد، مع تطوير أساليب أجدى وأنظف لإنتاج الطاقة واستخدامها. وبينما كانت أرقام النمو الاقتصادي المعيار الوحيد لقياس التقدّم، اصبح السعي إلى التنمية المستدامة سمة العصر.
لكن هذا لا يعني أن كلّ الأهداف تحققت، وأن العالم يعيش أفضل أيامه. وقد تكون جائحة "كورونا" أقوى تذكير أنه، مهما بلغ جبروت الإنسان، فهو يبقى خاضعاً لقوانين الطبيعة. والثابت أن السبب الرئيسي لانتشار الفيروس القاتل هو التلاعب بالبيئة وتجاوز الحدود المسموحة والمأمونة للعلاقة بين الإنسان والحيوان، والطبيعة عامة.
قبل خمسين عاماً، كان التلوُّث الذي يؤثر مباشرة في صحة البشر، ونضوب المياه ومصادر الطاقة وتناقص إمدادات الغذاء، واندثار الغابات والتصحّر، وموت البحار، هي التحدّيات التي حرّكت القلق على المستقبل. ورغم بعض التقدُّم الذي حصل في معالجة هذه التحدّيات، ما تزال المواجهة مستمرّة. لكن تلوّث الهواء والماء والتراب والبحار ونضوب الموارد لم تعد التحدّيات الوحيدة. فالدافع إلى اعتماد كفاءة الطاقة والتحوُّل إلى الطاقة المتجددة لم يبقَ محصوراً في الخوف من نضوب الموارد الطبيعية أو التسبب بتلوُّث في الهواء يصيب صحة البشر، بل تعدّاه إلى أخطر التحديات في التاريخ، وهو التغيُّر المناخي، الذي يُنذر بآثار وعواقب أسرع وأكثر ضراوة وأوسع انتشاراً من أية جائحة.
لهذا، كان العمل المناخي موضوع "يوم الأرض" لهذه السنة. ومن المؤكَّد أن آثار جائحة مثل "كورونا" ستكون مضاعفة مع تغيُّر الأحوال المناخية، بحيث تنتقل العدوى إلى أماكن لم تكن تصل إليها سابقاً. وقد أثبتت الدراسات أن المنطقة العربية هي بين الأكثر تعرّضاً لآثار التغيُّر المناخي، خاصة ارتفاع مستويات البحار والجفاف ونضوب المياه.
حين توقّع بعض العلماء قبل خمسين عاماً أن يُضطر سكان المدن إلى وضع كمامات على وجوههم لاتقاء تلوث الهواء عند الخروج إلى الشارع، اتهمهم المشككون بالمبالغة والجنون. أما وقد أوصل فيروس "كورونا" العالم إلى هذا الواقع المرعب، وهو بالتأكيد لم يكن مستعدّاً لمواجهته، فهل يكون ما يحصل درساً يحفّز على الاستعداد الجدّي لمواجهة التغيُّر المناخي، لئلا يأخذنا، كما فعلت "الكورونا"، على حين غرة؟
"يوم الأرض" فرصة للتأمُّل والعمل لقيامة هذا الكوكب المهدَّد.