أكثر من ثلث الطعام يذهب هدراً، خلال مراحل الإنتاج والتصنيع والتخزين والتوزيع، وصولاً إلى المستهلك النهائي. وفي بعض البلدان، تصل الخسارة في الغذاء إلى نصف الإنتاج. والطعام الذي لا نأكله يعني خسارة الموارد المستخدمة في إنتاجه، من مياه وبذور وأسمدة ومبيدات وطاقة لتشغيل المعدات الزراعية وآلات تصنيع الغذاء. ويأتي في نهاية الحلقة هدر الطعام في المرحلة الأخيرة، أي لدى المستهلك، في البيت والمطعم والفندق على السواء.
العالم يخسر سنوياً أكثر من 1.3 مليار طن من الطعام، تتجاوز قيمتها 990 مليار دولار. لكن الخسارة لا تنحصر في المال، إذ إن تخفيف الهدر في الغذاء يعني في النهاية الحفاظ على الموارد الطبيعية ورعاية البيئة.
خلال مرحلة الإنتاج، يساهم اعتماد الأساليب الزراعية الملائمة في الحدّ من خسارة الغلال. وهذا يشمل الاحتياطات لمواجهة الكوارث الطبيعية والتغيُّرات المناخية والتأقلم معها، عن طريق إيجاد بدائل. كما يساهم تحسين النقل والتخزين في تقليل الخسائر. فشدّة الحرارة أو الرطوبة من الأسباب الرئيسية لتلف المواد الغذائية قبل وصولها إلى المستهلك. لكن الحلقة الأخيرة قد تكون الأضعف، وهي أنماط استهلاك الطعام بعد إعداده للأكل، أكان في البيوت أو الأماكن العامة.
كرم الضيافة يتم التعبير عنه أحياناً بأساليب متطرّفة، وعلى وجه الخصوص في الولائم. كميات الطعام التي يتم تقديمها خلال المؤتمرات في كثير من البلدان العربية تفوق بأضعاف ما يمكن للمشاركين استهلاكه. ويصحّ الشيء نفسه في الولائم العامة للمناسبات، خاصة الأفراح. أما في بيوت العائلات الميسورة، فغالباً ما تنتهي كميات كبيرة من بقايا الطعام في مستوعبات النفايات. ومعالجة هذا النوع من الهدر تتطلب تبديلاً في العادات الاستهلاكية. وتظهر فداحة المشكلة في نسبة المواد العضوية من النفايات المنزلية في البلدان العربية، حيث تصل إلى 70 في المائة، معظمها فضلات غذائية، بينما لا يتجاوز المعدل العالمي نصف هذا الرقم.
على المستوى المنزلي، يمكن تخفيف تلف المواد الغذائية عن طريق التخزين في ظروف حرارة ورطوبة مناسبة، وطهو كميات محدودة من الطعام المعرَّض للتلف سريعاً، والاحتفاظ بالفضلات في الثلاجة لاستخدامها مرة أخرى بدل رميها. أما معالجة بقايا الطعام في الأماكن العامة فتحتاج إلى إدارة معقّدة، خصوصاً في الفنادق والمطاعم والسوبرماركت. معظم هذه المرافق يرمي بقايا الطعام الجاهز مع النفايات. لكن برامج بدأت في كثير من المدن العربية لتوزيع بقايا الطعام من الفنادق والمطاعم على مؤسسات خيرية، من باب الصدقة. هذه خطوة مهمة على طريق الحلّ، لكنها تتعامل مع بقايا الطعام كنوع من المخلفات. وهي مخلفات ذات نوعيّة جيدة، لكنها بقيت على المقصف أو في برّاد السوبرماركت حتى نهاية النهار، ولن يمكن بيعها في اليوم التالي على أنها طازجة.
اكتشفتُ الأسبوع الماضي في أمستردام مبادرتين رائدتين تحوّلان بقايا الطعام إلى سلعة ذات قيمة وثمن. المبادرة الأولى تطبيق على الهواتف الذكية، تشارك فيه مجموعة من المطاعم والفنادق في المدينة. وهو ينبّه المشتركين إلى بقايا الأطعمة في المقاصف القريبة، مرّة بعد وقت الغداء وأخرى بعد وقت العشاء. فإذا أردت وجبة متأخرة ذات نوعية ممتازة وبسعر زهيد، تذهب إلى الفندق الراقي أو المطعم الفخم وتنتقي ما تشتهي مما بقي في المقصف، بسعر موحّد لا يتجاوز 3 يورو، أي أقل من 10 في المائة من السعر الكامل. لكن الشرط أن تحضر معك علبة الطعام لجمع وجبتك المفضّلة. ويمكن حفظ الوجبة في ثلاجة المنزل لاستخدامها في اليوم التالي.
المبادرة الثانية سلسلة من المطاعم تستخدم في أطباقها مكوّنات من السوبرماركت يتم شراؤها بأسعار زهيدة لأن صلاحيتها تقترب من الانتهاء، أو لأنها خضار وحبوب طازجة بقيت على الرفوف في نهاية يوم العمل. هذه المطاعم تقدّم أطباقاً شهيّة بأسعار زهيدة، لأنها اكتشفت وسيلة للحصول بكلفة قليلة على مواد غذائية ذات نوعية ممتازة، لكنها لن تكون صالحة للبيع في السوبرماركت في اليوم التالي. السرّ في العملية أنه يتم استخدام هذه المواد في أطباق تُحضَّر في اليوم نفسه، فتبقى طازجة.
تخفيف هدر الغذاء يبدأ في الحقل، ويمرّ في الشاحنة والمصنع والمخزن والسوبرماركت، قبل الوصول إلى المستهلك. وفي عالم محدود الموارد، لم نعد نملك ترف التبذير. فعدم رمي الطعام يحمي البيئة أيضاً.
تجربة أمستردام نموذج في تحويل ما كان يُعتَبر فضلات ونفايات إلى سلعة ذات قيمة.
|