نوعان من الضريبة لا يمكن التملُّص منهما: ضريبة الدخل وضريبة البيئة. وهناك قول شائع في العالم الغربي أن المتوجبات الضريبية تلحق بك إلى القبر. فعلى الدول الحديثة جباية الضرائب بفاعلية لكي تتمكن من تقديم الخدمات المطلوبة للمواطنين. والمتوجبات الضريبية المالية الموجَّلة المستحقة للدولة تنتقل إلى الورثة.
وإذا كانت مسؤولية تأجيل تسديد المستحقات المالية للدولة تقع على الأفراد والشركات، فمسؤولية تأجيل معالجة المشاكل البيئية تقع على الحكومات. لكن من يدفع الثمن هم المواطنون. والمشكلات البيئية الموجّلة أكثر تعقيداً، إذ إن آثار تدمير الطبيعة وتلويثها قد تكون دائمة، ولا يمكن حلُّها بقروض وهبات من المصارف والصناديق الدولية.
في الدول العربية كثير من المشاكل البيئية المؤجَّلة، إما بسبب انعدام الرؤية، أو ضعف التخطيط، أو قلة الخبرة، أو عدم وجود التمويل الكافي، أو غياب الإرادة السياسية، أو كل هذه العوامل مجتمعة. وإذا كان في مقدور الحكومات تأجيل بعض المشاكل عن طريق الهرب إلى الأمام، باختراع أهداف جديدة كلما أخفقت في تحقيق الأهداف المعلنة سابقاً، إلا أنها لا تستطيع أن تختبئ إلى ما لا نهاية وتلغي وجود المشاكل. فمشاكل البيئة لا تموت مع الوقت، بل تزداد ضراوة.
وإذا كانت الأمثلة كثيرة على نطاق العالم العربي كله، لكننا نتحدث في الموضوع اليوم انطلاقاً من مضاعفات مشاكل النفايات والمجارير في لبنان، المؤجَّلة منذ عقود طويلة. فبعد ربع قرن من الحديث عن خطة وطنية لإدارة النفايات، ما تزال نفايات البلد تُدار بخطط طوارئ تتبدّل مع كل حكومة ووزير. أما معالجة المجارير ومياه الصرف، فما برحت تتخبط في المشاريع المتضاربة بلا نتائج ملموسة، على الرغم من وجود خطة. فكأن المسؤولين عنها يلهثون من التعب وهم واقفون في مكانهم، كمستخدمي آلة المشي في النوادي الرياضية.
آخر فصول القضيّة اتخذ منحى سوريالياً، تمثّل في استقدام خبير في الشمّ من فرنسا، لتحديد مصدر الروائح الكريهة التي تعمّ بعض أحياء بيروت وضواحيها، واقتراح حلول. الخبير في حاسة الشمّ أفتى أن الروائح متأتية من النفايات في المكبات المكشوفة، ومن مصنع لتخمير النفايات العضوية لا يتمتع بالمواصفات المطلوبة، ومن المجارير ومياه الصرف التي يتم التخلص منها بلا معالجة، في المجاري المائية وصولاً إلى البحر.
ليس مستغرباً أن الناس لم يجدوا "اكتشافاً" جديداً في هذا. فالكل يعلم أن النفايات المكشوفة والمجارير غير المعالجة هي مصدر الروائح الكريهة. الخبير الآتي من فرنسا "فسَّر الماء بعد الجهدِ بالماءِ"، قبل أن يقترح رش مواد كيماوية لتخفيف الروائح، عن طريق تفكيك المكونات المسؤولة عن الرائحة في الهواء. وقد شبّه أحدهم هذا الاقتراح برشّ العطور على حفاضات طفل متسخة للتغطية على الرائحة الكريهة، بدلاً من تغيير الحفاضات.
الوزير في موقف لا يُحسد عليه: فهو ورث خطط طوارئ وأزمات مؤجلة منذ ربع قرن. والناس يطالبون بحل سريع للروائح التي تغزو غرف نومهم، وتكاد تستوطن مطار بيروت نفسه، وكأنها بطاقة استقبال للزائرين والسيّاح لحظة دخولهم البلد. لكن إهمال ربع قرن لا يمكن حله بسحر ساحر. كما أن الناس ليسوا على استعداد لقبول الحجج القائلة بأن الوزارات السابقة هي المسؤولة، لأن الحكم استمرار. والطريف أنه مع كل حكومة جديدة، تظهر خطة جديدة لإدارة النفايات. وبعد فترة سماح لدراستها وإقرارها، تمرّ شهور وسنوات على خطة طوارئ جديدة أيضاً، تبدأ الدورة نفسها مرّة أخرى مع حكومة جديدة.
بخلاف النفايات، كان للمجارير ومياه الصرف خطة متكاملة منذ ربع قرن، تتضمن شبكات تجمعها من مصادرها ومحطات للمعالجة. ما حصل أنه تم إنشاء الشبكات ولم يتم إنشاء معظم محطات المعالجة، والقليل الذي تم بناؤه منها لا يعمل. وهكذا يتم تجميع المياه المبتذلة وتصريفها في الأودية والأنهار والبحر بلا معالجة، مما جعل معظم الشواطئ ملوثة، إلى جانب الروائح الكريهة. فمن يتحمّل مسؤولية التأخير في تنفيذ خطة متكاملة، كان تمويلها متاحاً؟
حتى لو نجح "خبير الشمّ" في التقليل من الروائح، فلن تتمكن مواده الكيماوية من امتصاص مكوّناتها السامة في الهواء. وقد يكون من الأفضل أن يشمّ الناس الرائحة الكريهة ليحاولوا تجنّبها، بدل أن تبقى السموم مخفيّة في الهواء، وتدخل، مع المواد الكيماوية المستخدمة لِلَجم الرائحة، إلى الجهاز التنفسي.
الذين يقترحون اليوم حلاً سريعاً للتخلص من إزعاج النفايات والمجارير، يقوم على استخدام مواد كيماوية لكتم الروائح، يتشابهون مع الذين اقترحوا قبل سنوات تصدير نفايات لبنان على بواخر إلى بلدان أخرى، في ما تحوّل إلى فضيحة عالمية. فهل تمت محاسبة أحد على التقصير في تنفيذ محطات معالجة المياه المبتذلة وتشغيلها، أو عدم الوفاء بوعود إدارة النفايات؟ وهل تمت محاكمة الذين كانوا وراء فضيحة تصدير النفايات على نحو غير شرعي؟
الحلول موجودة، إذا ما توافرت الإرادة السياسية. الخطوة الأولى سحب الملفات المختصة من أيدي الهواة وصائدي الفرص وتجار الحروب، ووضعها في أيدي محترفين.