حين بدأت الشابة السويدية غريتا ثانبرغ، إبنة الستة عشر عاماً، إضراباً فردياً الصيف الماضي، للمطالبة بعمل أكثر جدّية لمواجهة تغيّر المناخ، اعتصمت وحيدة أمام مبنى البرلمان في ستوكهولم. وهي بالطبع لم تكن تنتظر أن تلقى مبادرتها استجابة واسعة في جميع أنحاء العالم. لكن في الشهور اللاحقة امتدت الاحتجاجات إلى أكثر من مئة دولة، حيث شارك مئات الآلاف من طلاب المدارس والجامعات في إضرابات من أجل البيئة، من ألمانيا وبلجيكا وبريطانيا، إلى أستراليا واليابان والولايات المتحدة.
بشجاعة الشباب، خاطبت ثانبرغ زعماء العالم في قمة المناخ في بولونيا، داعية إياهم إلى التوقّف عن "التصرف بلا مسؤولية كالأطفال". وطالبت قادة الأعمال في قمة دافوس بعدم تجاهل المبادئ الإنسانية الأساسية وتدمير ثروات العالم الطبيعية، بدافع الجشع وزيادة الأرباح.
مع امتداد موجة الاضرابات خلال الأسابيع الأخيرة إلى 123 دولة، تحوّلت المبادرة إلى حركة عالمية لا يمكن تجاهلها. وإذا كانت هذه هي المرة الأولى التي يخرج طلاب المدارس إلى الشوارع بهذه الأعداد الضخمة دفاعاً عن البيئة، فما دفع بهم مرات قليلة في السابق إلى حركات مشابهة كان مرتبطاً بوقف الحرب وإحلال السلام، خاصة خلال حرب فيتنام. وقد يكون ما صبّ الزيت على نار الاحتجاجات التقرير العلمي الذي صدر عن الهيئة الدولية المعنية بتغيّر المناخ، وحدّد الفترة القصوى بأقل من 11 سنة لاتخاذ إجراءات تمنع حصول عواقب كارثية من ارتفاع معدل الحرارة العالمي فوق الدرجة ونصف الدرجة.
الطلاب اعتبروا أن قادة الحكومات والأعمال يتعمدون التأجيل والمماطلة، ولا يتخذون الإجراءات الكافية لمجابهة التحدّي. وجواباً على مطالبة بعض المسؤولين الطلاب بالعودة إلى صفوفهم لتأدية واجباتهم المدرسية، ردّ الطلاب بدعوة المسؤولين الحكوميين إلى تأدية واجباتهم الوطنية حفاظاً على حقّ الأجيال المقبلة في الموارد والبيئة السليمة، بدلاً من حماية المصالح الخاصة لبعض الشركات. "سأقوم بواجباتي حين تقوم بواجبك": هذا كان ردّ أحد الطلاب في بلجيكا، حيث اضطر وزير البيئة إلى الاستقالة تحت وطأة الاحتجاجات والاتهام بالتقصير. واتهمت طالبة ألمانية وزير الصناعة خلال اجتماع معه بأنه يعمل للصناعات الملوّثة وليس لمصلحة الناس وسلامة الأرض.
الشباب يشعرون بحراجة الموقف ويخافون على مستقبلهم، إذ لديهم الكثير ليخسروه إذا أدى التقاعس في اتخاذ إجراءات جدية وسريعة إلى تسريع الآثار الكارثية لتغيّر المناخ. فهم يتطلعون إلى الحياة في النصف الثاني من هذا القرن، ولا يحصرون طموحاتهم في 20 أو 30 سنة، هي بقية العمر الافتراضي الطبيعي لمعظم السياسيين. وعبّرت يافطة حملتها متظاهرة شابّة في العاصمة الأسترالية سيدني عن هذا القلق، إذ جاء فيها: "إنكم تحرقون مستقبلنا". فما تحمله عواقب تغيّر المناخ، التي لا رجعة عنها إذا حصلت على نطاق واسع وبلا قيود، تعني ثمناً باهظاً تدفعه أجيال المستقبل، مما يعطيها الحقّ في كلمة فاصلة.
سيبقى دائماً المشككون، بدوافع الطلاب كما بتغيّر المناخ. فقد ادّعى وزير بلجيكي أن لديه معلومات استخباراتية تؤكد وقوف جهات خارجية وراء الاحتجاجات، قبل أن تنفي أجهزة المخابرات هذا الاتهام، مما دفع الحكومة إلى الاعتذار. فخروج الطلاب في إضرابات سلمية منظمة، حول العالم وفي وقت واحد، كان صدمة للبعض. لكن على هؤلاء التعوّد على أنظمة حياة جديدة تحكمها وسائل التواصل الاجتماعي، التي قد يكون الشباب أكثر قدرة من أجهزة المخابرات على استغلالها. أما المشككون بتغيّر المناخ فانتقلوا إلى خط الدفاع الأخير عن مواقفهم العقيمة، في مواجهة الاجماع العلمي أن المناخ يتغيّر بسبب زيادة الانبعاثات الناجمة عن النشاط الإنساني. فهؤلاء يسوّقون اليوم لانعكاسات إيجابية يسبّبها تغيّر المناخ، من قبيل أن الجفاف في مناطق سيقابله ازدياد للأمطار في مناطق أخرى، وأن ذوبان الجليد القطبي سيفتح خطوطاً ملاحية جديدة ويكفل الوصول إلى مزيد من الموارد الطبيعية. كما أن الطقس الأكثر اعتدالاً في المناطق القطبية سيفسح في المجال لسكان المناطق التي يرفع تغيّر المناخ حرارتها إلى التحرّك شمالاً وإقامة مستوطنات بشرية جديدة في الأراضي المتجمدة سابقاً.
يتجاهل أصحاب هذا الخيال الجامح أن زيادة الأمطار الناشئة عن تغيّر المناخ في بعض مناطق العالم ستكون على شكل أعاصير وفيضانات جامحة، ولا يمكن التعويل على فوائد منها. كما لا يمكن أن نطلب من مجتمعات كاملة أن تنقل سكنها، خلال خمسين إلى مئة سنة، من المنطقة العربية، مثلاً، إلى القطب الشمالي، وتقيم حياة جديدة هناك. صحيح أن هجرات جماعية من هذا النوع حصلت في التاريخ، لكنها امتدت على ملايين السنين بالتدريج، في حين أن التغيير الجذري الذي يحذّر منه العلماء اليوم قد يحصل خلال خمسين سنة، أي خلال العمر التقديري للطلاب الذين يتظاهرون اليوم.
بالطبع هناك فارق كبير بين دوافع شباب يتمتعون بكثير من الطهارة والقليل من الواجبات المادية، يحرّكهم قلق المستقبل للتظاهر اليوم، وجيل آخر تضغط عليه الاهتمامات المعيشية في المدى القصير... إلى جانب مسؤولين حكوميين يعتقدون أنه يمكن تأجيل المشكلة لقاء الاستمرار في سياسات شعبوية تبيع الناس اليوم من كيسهم غداً، أو قادة شركات يطمعون بمضاعفة أرباحهم عن طريق استغلال الوقت المتبقي، قبل أن يُجبَروا على تغيير سلوكهم.
قد يكون أبرز ما حققه الطلاب في تحركاتهم إسماع صوتهم وفتح باب للنقاش الجدي. وقد كان الشباب، عبر التاريخ، محرّكاً للتغيير. وكلما ازداد صوتهم ارتفاعاً، لن يستطيع المسؤولون صمّ آذانهم عنه، لأن أولاد اليوم وشبابه هم من يتحكم بمصير المسؤولين خلال سنوات قليلة.
كنت على وشك أن أُنهي بالدعوة إلى التوفيق بين مطالب الشباب "الطموحة" وبرامج السياسيين "الواقعية". لكنني وجدت نفسي هذه المرّة في صف الشباب، لأنهم على حق في أن لا وقت للتأجيل.