"الأردن ضحية نجاحه". هذا كان عنوان مقال في مجلة عالمية مختصة بقوانين الطاقة، عقب قرار الحكومة الأردنية إيقاف منح التراخيص لمشاريع الطاقة المتجددة. فالقرار المفاجئ جاء في وقتٍ وصل قطاع الطاقة المتجددة في الأردن إلى مستويات متقدّمة، واحتل صدارة منتديات الطاقة العالمية كقصة نجاح باهرة. وجاءت هذه الخطوة بعد سنة على قرار مماثل، ألغى الأردن بموجبه معظم التسهيلات الضريبية لتشجيع السيارات الكهربائية والهجينة، بعدما تجاوزت نسبتها أعلى المعدلات العالمية، الأمر الذي جعل من الأردن مثالاً يحتذى بين دول المنطقة في التحوُّل إلى وسائل نقل أنظف. فهل هناك ما يبرر هذه التراجعات المتتالية، ولماذا يضرب بلد نجاحه بيده؟
أدت سياسات الطاقة المتجددة المتطورة في الأردن، التي اعتمدت عام 2012، إلى تقدم سريع في القطاع، إذ وصل توليد الكهرباء من الشمس والرياح إلى ألف ميغاوات. وكان من المتوقع، لو استمر نمو القطاع بالوتيرة نفسها، أن تصل حصة إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة إلى 25 في المئة سنة 2020 و50 في المئة سنة 2030. وتمثل الشمس والرياح المصدر المحلي الرخيص الوحيد للطاقة في الأردن، الذي يفتقر إلى النفط والغاز والفحم الحجري. وكان نجاح استغلال الطاقات المتجددة أدى إلى فتح نافذة أمل للاقتصاد الأردني، الذي يعتمد على استيراد النفط والغاز. وتصبح المسألة أكثر جاذبية حين نعرف أن كلفة إنتاج الكهرباء من الشمس والرياح في الأردن حالياً تقلّ عن أي مصدر آخر.
الحجة الرئيسية التي اعتمدتها الحكومة الأردنية في قرارها هي أن الشبكة الحالية لا تستوعب مزيداً من إمدادات الكهرباء. وهذا يطرح التساؤل المشروع عن سبب الاستمرار في الإنتاج من محطات تعمل على الوقود التقليدي المستورد، من نفط وغاز، بدلاً من الحل المنطقي في تخفيف طاقتها الإنتاجية لتحلّ محلها، تدريجاً، الكهرباء المنتجة من الشمس والرياح. فكأن المقصود حماية محطات الكهرباء التقليدية المكلفة والملوثة، على حساب الطاقة المتجددة الرخيصة والنظيفة.
بين عامي 2004 و2011، كان الأردن يحصل على معظم احتياجاته من الغاز لتوليد الكهرباء من مصر، بأسعار منافسة. لكن ضخ الغاز توقف سنة 2011 بسبب تفجير الأنابيب في عمليات تخريب متكررة في سيناء، وما تبعه من رفع للأسعار، والتزامات مصرية أخرى أخّرت إعادة الضخ. اضطرار الأردن خلال هذه الفترة إلى دفع أسعار مرتفعة جدّاً لاستيراد الغاز المسيّل والنفط من مصادر أخرى، كان له أثر إيجابي، إذ شهد تحوّلاً سريعاً إلى الطاقات المتجددة، سبقه وضع قوانين وأطر ناظمة حديثة، مما جذب استثمارات كبيرة من شركات عالمية وحظي بدعم من صناديق تنمية إقليمية ودولية، بحيث انخفضت كلفة الإنتاج لتنافس أي مصدر آخر للطاقة.
المشهد بدأ يتغيّر العام الماضي، حين وقّع الأردن عقداً مع شركة أميركية تستثمر حقلاً للغاز يقع في الحوض المقابل لإسرائيل في المتوسط، لتزويدها بثلاثة مليارات متر مكعب سنوياً لفترة 15 سنة، ابتداء من سنة 2020. وما لبثت مصر أن أعلنت أنها ستستأنف ضخ الغاز إلى الأردن سنة 2019، وذلك بأسعار مخفضة للتعويض عن بعض الخسائر التي سببها عدم متابعة العقد السابق، حتى يصل تدريجاً إلى نصف احتياجات الأردن.
ويُظهر حساب بسيط للأرقام المعلنة أن كميات الغاز التي ارتبط الأردن بشرائها من خلال عقود طويلة الأجل تفوق حاجته الفعلية بمقدار 50 في المئة. من هنا يتبيّن أن المشكلة ليست في محطات الشمس والرياح، بل في فائض إنتاج الكهرباء من الغاز. ومع أن التحوُّل إلى الطاقات المتجددة وإيقاف محطات الغاز تباعاً كان الحل المنطقي الأرخص والأنظف، إلا أن الارتباط بشراء كميات إغراقية من الغاز كان وراء قرار يجافي المنطق. لكن الطاقات المتجددة كانت "الحلقة الأضعف"، وبالتالي أمكن إلغاء عقودها بسهولة، في وقت لم يكن في المتناول إلغاء عقود الغاز بلا عقوبات وغرامات.
يبقى سؤال محيّر: لماذا تم الالتزام بهذا الفائض من الغاز المستورد لآجال طويلة؟ الغالب أننا لن نجد الجواب في سياسات الطاقة، ولا في متطلبات البيئة أو قواعد الاقتصاد، بل في مكان آخر.
سوق الطاقة المتجددة في الأردن لن يعود لفترة طويلة إلى ما كان عليه من ازدهار. فالضربة الكبرى التي تلقاها هي إشارة سلبية للمستثمرين بعدم استقرار التشريعات. وقد يكون الحل الوحيد المتاح تصدير فائض الكهرباء المنتجة إلى السعودية والعراق وسورية ولبنان، ما قد يسمح باستئناف مشاريع الطاقة المتجددة. وإذا كان لدى بعض الدول تحفظات على شراء الكهرباء الأردنية المولّدة من غاز لا توافق على مصدره، يمكن حصر التصدير بالكهرباء المولّدة من الطاقات المتجددة، المحلية و"الوطنية". ويبدو أن هذا الاقتراح، الذي قدّمناه عند الإعلان عن وقف تراخيص الطاقة المتجددة، بدأ يلقى قبولاً. وظهر هذا في انطلاق البحث، على أعلى المستويات، حول تبادل فائض الكهرباء والمياه بين الأردن ولبنان.
هذا هو الحل العملي الذي يحمي المستقبل، إذ إن استيراد الغاز لن يدوم، بينما الشمس والرياح إنتاج محلي.
كل ما عدا هذا يعني موت أحلام الطاقة المتجددة في الأردن.
|