من التجارب الملهمة التي عشتها في حياتي المهنية عملية تقييم المشاريع التي نفذتها جمعيات نسائية في المحافظات الأردنية كافة، ضمن برنامج المنح الصغيرة الممول من مرفق البيئة العالمي. شاهدت في هذه الدراسة عشرات الجمعيات التي حققت نجاحاً مذهلاً في تنفيذ مشاريع بتمويل صغير ولكن بتأثير بيئي واجتماعي كبير على المجتمع المحيط. مئات النساء في المناطق الريفية، يعتقد البعض منا أنهن يعانين من التهميش والفقر وغياب التواصل الاجتماعي، يحققن نجاحاً كبيراً فور إتاحة الفرصة لهن، وينفذن المشاريع بناء على شعور هائل بالمسؤولية.
في إحدى جولات التقييم في محافة جنوبية في الأردن، وبعد الإعجاب الشديد بأداء الجمعية النسائية وذكاء النساء العاملات فيها وقوتهن والتزامهن، صادفنا ثلاثة رجال جالسين أمام بقالة شبه خاوية يدخنون الشيشة ويشربون الشاي بتثاقل. قال أحدهم لنا: "ألا توجد لديكم أموال لدعم الجمعيات التي يديرها الرجال؟ وأتبع ذلك بضحكة استهزائية كانت كافية للإجابة عن السؤال بكلمة "لا" كبيرة وحاسمة.
في هذا البرنامج وغيره، تم تزويد جمعيات يديرها الرجال بمنح عديدة، ولكن بنسب متفاوتة من النجاح. في المجمل، كان النجاح في تنفيذ الأهداف، والمسؤولية في العمل، والقدرة على التنظيم الاجتماعي، وشفافية الإدارة المالية، عوامل هامة وراء نجاح الجمعيات النسائية. في المقابل، ساهمت الرغبة في الظهور والصراع المحلي على القيادة وضعف الالتزام بالعمل في تعطيل الكثير من المشاريع التي نفذتها جمعيات يديرها الرجال. هذه الظاهرة نفسها وجدتها في دول عربية أخرى، بعد أن بدأت أهتم بمعرفة الفوارق في الأداء بين الرجال والنساء في المجتمعات المحلية، وخاصة في المغرب وتونس ومصر وسورية ولبنان التي تملك ظروفاً مشابهة للأردن.
بشكل عام، يمكن القول إن أسطورة ضعف المرأة الريفية وحاجتها للإشراف من قبل الرجال في مجتمعها أو من قبل نساء المدن المتأنقات، لا تصمد أمام ما يمكن أن تقدمه المرأة الريفية في حال منحت الفرصة. بالنسبة إلى المرأة الريفية، فإن مشروعاً بيئياً صغيراً مثل زراعة النباتات الطبية أو تحسين ظروف تربية الماشية أو بناء خزانات جديدة للمياه لاستخدامها في الصيف يمكن أن يحقق نقلة نوعية في مستوى الحياة في المنزل، كما يحسن من ظروف المعيشة للأطفال وأفراد الأسرة. وهذا ما يعكس شعور المرأة بالمسؤولية تجاه منزلها ومجتمعها، بينما يبحث الرجال عن الهيبة الاجتماعية والمزيد من المكاسب بين أقرانهم.
أحياناً، يمكن أن يكون الرجال مصدر إعاقة للنساء في المجتمعات الريفية. قبل عامين، قامت مؤسسة "كلية حفاة الأقدام" (Barefoot College) التي يديرها الهندي بانكر روي باستقدام امرأتين من البادية الأردنية لتعلم كيفية تركيب وصيانة الألواح الشمسية في المنازل لتوفير مصادر متجددة للطاقة. وبسبب التقاليد العربية والإسلامية، اضطرت المؤسسة الهندية إلى استقدام ابن إحدى السيدتين معها خلال الدورة التدريبية التي استمرت ستة أشهر في الهند، لأنه ليس مسموحاً للنساء السفر من دون مرافق ذكر. وبعد أن عادت السيدتان إلى الأردن، قامتا بإضاءة نحو 80 منزلاً في البادية التي تقطنان فيها بالكهرباء الناجمة عن الألواح الشمسية. لكنهما واجهتا مشاكل عديدة. فقد تعرضت إحداهما للطلاق من زوجها لأنه رفض عملها بحجة "العيب"، بينما هي أصرت على مواصلة تنفيذ ما تعلمته. أما السيدة الأخرى فقام ابنها المراهق بسرقة المعدات التي تستخدمها وباعها في السوق السوداء!
لا تحتاج النساء الريفيات في العالم العربي إلى إشراف من الخبراء والخبيرات القادمين من المدن، بقدر ما يحتجن إلى توفير الظروف المناسبة للإبداع، وإزالة العقبات التي تقف في الطريق. النهضة الحقيقية للمرأة العربية وتحقيق حلم المساواة والتمكين الاجتماعي قد يحدثان بقيادة نساء الريف، في حال تمكنت الجهات المانحة والسياسات العامة من خلق الفرص المناسبة لفئة شجاعة ومتعطشة للتغيير الايجابي.
|