في سـير العلماء الكثيـر ممـا يســتحق التأمُّـل، وعلى الأخص فـي أطــوار طفولتهم. وقد تبين لي، بصفة عامة، أن العلمــاء البـارزيـن، الذين تركوا آثاراً مهمــة فـي مســيرة العلـم، نعمــوا بطفـولـة ســعيدة واســـتمتعـوا باللعــب. وهـم يتذكَّــرون جيــداً الألعــاب والأدوات التي امتلكـوهـا، ومنهم من يربـط بين نوع اللعبة التي كـان يفضِّلهـا وهـو طفل وبروزه وتفوُّقـه في عمله، بـل إن بعض هذه اللعب الأثيـرة كانت المؤثِّــر المباشــر في التوجهات العلميـة والعمليـة لجـانــب كبيـر من هؤلاء العلمــــاء.
وقد استوقفتني من حكايات ألعاب طفولة العلماء حكايةُ الدكتورة ماري كلير كينغ، أستاذة الوراثة في جامعة واشنطن، التي تدين بمكانتها العلميَّـــة البــــــارزة بيــن علماء الوراثة في العالم للعبة أطفــــــال مكونة من ألف قطعة حمراء، أهداها إليها أبوهـا في عيد ميـلادهـا التاســــع. وكانـت الطفلة ماري كلير تصنع من القطع الحمراء تكوينات معـقَّــدة تحيِّــرُ أفراد أســرتهـا وأصـدقاءهـا، فكانـوا يســألونهـا عمَّـا صنعــت، فـلا تجــد جـوابــاً. والآن، تدرك البروفسورة ماري كلير أن تلك التكوينات الغامضـة تشــبه، إلى حــد كبيـر، الشــريط الحامــل للصـفــات الوراثيـة!
عالِمٌ آخــر بدأ أنشطة الطفولة بهواية صيد الفراشـات وتحنيطهـا، هــو أ. و. ويلســـون، منشـــئ علــم "الاجتمــاع الأحيـــائي" والأســـتاذ في جامعة هارفرد. ويربـط ذلك العلم بين الاجتماع وعلوم الحيــاة. لم يكتــف الطفل ويلســون بالشــبكة التي أهداهـا إليـه والده، فقـام بصنــع شــبكته الخاصة، مســتخدماً يــد مكنســـة قديمـة وقطعـة قمـاش رقيـق وحلقـة من ســلك معدني. ويقول الدكتور ويلســون: "قادني التأمل في الطبيعة، وأنا أطارد الفراشــات في المـروج، إلى الاهتمــام المبكـر بالعلوم الطبيعية، حتــى تخصصــتُ في علوم الحيـــاة".
ولنقتـرب من طفولة جرترود إليــون، عالمة الصيدلة الحائزة على جائزة نوبـل في الطــب والفيزيولوجيا عام 1988. كانت تروي عــن طفولتهــا، في أوائل القرن العشرين، فتقـول إنهـا لــم تكن ميالة للعلـوم، ولم يخطـر ببالهـا أنهـا سـتصيـر عالمـة، إلى أن بلغـت الخامســة عشـــرة من عمرها. وكانت تضيـف أن اللعب التي أحبتهـا في طفولتهـا لم تكن لهـا صـلة مباشــرة بمســتقبلها. وعلى أي حال، كانت الحيــاة مختلفة في تلك الأيام، فلم يكن المذياع معروفاً ولا التلفـاز، فكانت تلتمس التسلية والمتعة في الكتـب. وظلت تتذكـر كتاباً قرأته وهي في الحادية عشرة، عنوانه "قنَّاصــو الميكروبات"، متذكرة اســم مؤلفـه أيضــاً بـول دي كرويــف، ومحتفظة بنسـخة من الكتـاب القديم تعـاود قراءتهـا من حيـن إلى آخــر بمثل متعـة ودهشـة القراءة الأولــى وتعيرها لأبنــاء وبنــات الأســـرة. وقالت إليون عن ذلك الكتاب إنه مثــال لمــا يجـب أن يكون عليه الكتاب العلمي المبسَّــط. فهو مكتوب بأســلوب يفهمه غير المتخصص، ويعرض لقصص مجموعة من العلماء والأطبــاء في كفاحهـم من أجـل اكتشــاف الميكروبـات ومقاومتهـا. ولعل ذلك الكتـاب كان هو الموجِّهُ لمسيرتها العلمية من دون أن تدري.
|