توصل الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى تسوية قضائية بدفع 25 مليون دولار إلى المتضررين من الجامعة الوهمية التي تحمل اسمه. ترامب جمع جزءاً من ثروته خلال الفترة بين عامي 2005 و2010 عن طريق تضليل عدد من مواطنيه بافتتاح جامعة، هي بالأحرى شركة تجارية، تمنح درجات الماجستير والدكتوراه بشكل مخالف لقوانين التعليم في ولاية نيويورك التي ستحظى بمليون دولار من مبلغ التسوية.
لقد كتبت العديد من المقالات عن تجارة الوهم وعن العلوم الزائفة وعن منهج التشكيك العلمي، وها نحن أمام شخصية ستصبح الأقوى على كوكب الأرض، وهي تجمع المجد من كل أطرافه. مجد إدارة جامعة وهمية، ومجد التشكيك بالعامل البشري في حصول الاحتباس الحراري، ومجد الترهيب من لقاحات الأطفال.
ترامب ليس الناجح الوحيد الذي تغص سيرته الذاتية بمواقف وأحداث تعادي العلم وتشكك في قيمته وجدواه. فقد سبقه كثيرون وسيأتي بعده كثيرون يستغلون العلم إلى حد التطرف من أجل تحقيق المصالح والمكاسب، أياً تكن القيمة الأخلاقية والأثر على المجتمع بشكل عام. مواقف هؤلاء لا تنتج عن قلة معرفة أو جهل، كما قد يظن البعض، بل عن طموح واع يقوم على جلب المنافع بغض النظر عن درء المفاسد. والمدهش أن عدداً كبيراً من هؤلاء يبرزون ويصبحون قادةً في مجتمعاتهم.
حدثني أحد أصحاب "الاختراعات"، بعد أن ذاع صيت اختراعه الأخير في الصحافة المحلية والإقليمية، عن الترحيب الكبير الذي لاقاه من أهالي بلدته الصغيرة، وقد أضحوا يفاخرون بأنهم أبناء البلدة التي أنجبت مخترعاً يشار إليه بالبنان في وسائل الإعلام لمعالجته المنصرفات الصناعية التي عجز عن علاجها كبار الباحثين. بطبيعة الحال، لم يغادر هذا الاختراع المخيلة، ولم يره أحد من الصحافيين الذين كتبوا عنه أو الأهالي الذين احتفوا بصاحبه. ذلك أن الكذبة قد فعلت فعلتها وباتت أجمل من أن يتم تحريها أو التشكيك فيها.
الأسوأ من ذلك هو أن تتسلل هذه النجاحات الوهمية من أوراق الصحافة إلى أوراق الدراسة، فيتحول هؤلاء الأدعياء إلى مبدعين وطنيين لا يُشق لهم غبار وقدوة تقتدي بها الأجيال.
في كتاب "العربية لغتي" للصف الخامس في سورية، نقرأ فصلاً يحمل عنوان "مبدعون"، ومما جاء فيه: «ومخترع سوري آخر سجل اسمه في موسوعة غينيس للأرقام القياسية لاختراعه أصغر قمر صناعي في العالم». والحديث هنا عن طالب بالكاد أنهى دراسته في الثانوية الصناعية وادعى اختراعه قمراً يضيء العالم كشجرة الميلاد في بداية كل عام على حد وصفه. أين وكالات الفضاء العالمية من هذا الاختراع العظيم؟ يبدو أن علماء "ناسا" قد بحثوا في كتاب غينيس فوجدوا معلومات عن أطول سيخ كباب وأكبر صحن تبولة، ولكنهم لم يعثروا على أي ذكر لإبداعات مخترعنا الشهير.
ونتابع في قراءة هذا الفصل، فنجد حديثاً عن مبدع آخر يقول: «لقد وضع هذا المبدع الشاب اثنين وأربعين قانوناً من شأنها أن تغير عمل الحاسوب، وتسهم في تطوير علم الرياضيات». اثنان وأربعون قانوناً في الرياضيات! إنجاز لم يسبقه إليه فيثاغورث وإقليدس والخوارزمي فرادى ومجتمعين. وأين وضع صاحبنا هذه القوانين؟ وضعها لدى دائرة حماية الملكية الفكرية في وزارة الثقافة، إلى جانب عدد من القصائد تعود لشاعر مغمور ورواية جيدة تجاهلتها الصحافة وفضلت الحديث عن مبدعنا عالم الرياضيات الذي تقتصر مؤهلاته العلمية على شهادة الثانوية العامة.
عندما تجد الأدعياء يوصفون بالمبدعين وتكتب عنهم المؤلفات، وعندما تجد المجتمعات تحتفي بتجّار الوهم وتجعلهم قادة وزعامات، عندها ستدرك حقاً عمق الدرك الأدنى الذي وصل إليه العالم وحجم الخطر الذي يحيط بنا وبمستقبل أبنائنا.
|