عند قراءة الادبيات الاممية التي تفصٌل اهداف التنمية المستدامة والسبل الى تحقيقها، لا يخفى على احد من المهتمين التفاوت الكبير بين لغتها واللغة التي نتحاور بواسطتها، او نتساجل، في احوالنا الحاضرة ومآلاتها. والاحوال الحاضرة، على تنوعها في بلداننا العربية، مطبوعة بسمة الانتقالية، ايا كان من تقديرنا لطولها او تمثلنا لآخر مطافها. والسمة هذه ملازمة لتحولات مذهلة، لم تكن في حساب احد ولا في توقعاته. وما زالت مبكرة، نتيجة تسارع الزمن وتداخل المحركات و المؤثرات، الاحاطة بجوانبها كافة، ناهيك عن اطلاق الاحكام، وهو ما يجنح اليه، على نحو لا يخلو من المبررات، الخائبون ومعهم الذين اكتووا بنار النزاعات المنفجرة ما بعد الثورات.
والانتقالي غالباً ما يكون في نظر الكثيرين صنو المؤقت. اذكر هاهنا محادثاتي المنتظمة مع رئيس الوزراء في ليبيا، حيث كنت اعمل ممثلاً خاصاً لأمين عام الامم المتحدة، حين لفتّه غير مرة الى انتظارات المواطنين ومسؤولية الحكومة في تقديم الخدمات الاساسية، من طبابة وتعليم ونظافة وسواها من الضروريات فضلاً عن الامن المستتب. كان يسارع بالإجابة لسنا الاٌ حكومة مؤقتة. فالمؤقت يُستغرق في اللحظة الحاضرة. يحكمه الاستعجال والاجتزاء وعدم المجازفة في الربط بين المباشر والمدى الابعد، وهو بالطبع مدى التنمية المستدامة. لقد ضربت مثلاً عن ليبيا ولن يكون الاخير في مداخلتي هذه، ذلك اني خدمت في ليبيا سنتين انتقاليتين سلكت خلالها البلاد وسلكت معها مسالك وعرة. غير ان تجربة الليبيين وتجربتي معهم ولأجلهم، و ما تعلمته منهما، تتجاوزان خصوصية بلد بعينه الى المشتركات بين بلدان كثيرة شهدت تغييراً مفاجئاً، ودموياً احياناً كثيرة، في السنوات الاخيرة. والمشتركات هذه عديدة من الاقتصاد الربعي لدول عربية كثيرة الى ضعف الدولة بمؤسساتها كافة، ما خلا الامنية، وازدياد هشاشتها او وقوعها في الفشل الكبير، الى تمزق المجتمعات وانزلاقها الى العنف والفوضى.
ومن المشتركات البيّنة ظهور العصبيات ما دون الوطنية او بالاحرى عودتها وهي، برأي البعض، آكلة المجتمعات العربية المعاصرة. والعصبيات تقوم على شد الافراد الى وحدات اجتماعية مغلقة بوجه من يغايرهم في الانتماء اليها، اكانت قبيلة ام طائفة ام عائلة ام جماعة لغوية او اثنية. ويصفها ابن خلدون بخصائص ثلاثة النعرة والتذامر والاستماتة، اي ان رابط العصبية يستنفر الافراد استنفاراً عالياً ويحشد قوتهم ويدفعهم الى ممارستها حتى التضحية بالدم. والعصبيات كثيراً ما تضع خير الجماعة الخاص في مواجهة الخير العام. والاحتياجات المباشرة، المتصلة بظروف الحاضر، في تعارض مع التطلع الى المستقبل. لكن العصبيات هذه ليست معطى ثابتاً ولا قدراً محتوماً. فهي وان استجابت لرغبة الافراد، بظل غياب الاستقرار، في طلب الحماية الفعلية والمعنوية من جماعات انتمائهم الاولى، تتعزز وبعاد اختراعها بفعل الاستثمار السياسي. فالقبائل الليبية أُخرجت في العقود الماضية من معاقلها وانتشرت في المدن واختلط ابناؤها وتزاوجوا مع ابناء القبائل الاخرى وباتت المدن محل انتماء اولي بديل منها، لا سيما وان مسافات كثيرة تفصل بعضها عن البعض الآخر. لكن سقوط الحكم المركزي المستبد وتعثر بناء مؤسسات الدولة، اتاح للقوى السياسية المتصارعة على السلطة، والغنيمة التي تأتي بها، ان توقظ العصبيات وتوظفها في مغالبة القوى الاخرى. وعلى هذا النحو، استفادت القوى السياسية، عن قصد او بدونه، من وهن المؤسسات وانعدام الثقة بها لا بل فاقمته.
بطبيعة الحال لا تتفرّد ليبيا بالفشل في تأمين الاستقرار الامني والاجتماعي وهو شرط النجاح في الطور الاول من المرحلة الانتقالية يأتي من بعده العبور من موجبات المؤقت الى مستلزمات الديمومة من خلال بناء مؤسسات الدولة في الطور الثاني وصولاً الى اطلاق سياسات التنمية في الطور الثالث. بعبارة اخرى ادّى عدم تحقق الشرط الاول الى تأخر الدخول في الطور الثاني وتأجيل الثالث من دون افق واضح للعملية الانتقالية.
لقد طفى الصراع على السلطة في بلدان ما بعد النزاعات على ما عداه. وغلبت السياسة، بمعناها الضيق، على اولوية بناء الوطن ودولته. وغابت عن الحياة العامة قضايا التنمية البشرية في جوانبها المختلفة. وتعمقت الانقسامات المجتعية بفعل ممارسة مستعجلة للديموقراطية الانتخابية حيث الرابح يأخذ كل شيء، فيقصي الخاسر في مرحلة تتطلب تضافر الجهود جميعها في اقامة البنيان الوطني.
من ناقل القول ان الديموقراطية لا تختزل باجراء انتخابات حرة ونزيهة. بل تستدعي في المرحلة الانتقالية الشروع في اصلاح مؤسسات الدولة او بالاحرى اعادة بنائها وبالوقت نفسه توافقاً وطنياً واسعاً على اولية ذلك. هذا كله فضلاً عن التأكيد على التمييز القاطع بين الدولة والسلطة فلا يؤدي الوصول الى الثانية، ولو جاء عن طريق الانتخاب، الى استبتاع الثانية من قبل الفريق الرابح او الاستحواذ عليها بوصفه غنيمة المنتصر.
من جهة اخرى، ليس بناء المؤسسات ممكناً من دون التشديد على الغاية التي تقوم من اجلها. فهي لا تقوم من اجل تسيير مرافق السلطة بل للنهوض بادوار الدولة في تأمين الخدمات لشعبها والسير في طريق التنمية المستدامة. ومما لا شك فيه ان غياب المؤسسات الجديرة بهذا الاسم، اي المؤسسات غير المحكومة بمصالح اهل السلطة بل المشغولة بحفظ مصالح المواطنين، يجعل العمل على اعادة البناء محفوفاً بالعقبات و الصعوبات. ولا يمكن تجاوز الاثنتين بقوة السلطة القوية، وهد ما يجنح اليه البعض في ردة فعل على حالة التخبط والفوضى التي شهدتها السنوات الاولى التي عقبت سقوط الانظمة المستبدة. بل يتطلب ذلك ظهور نخب سياسية جديدة صاحبة رؤيا لاوطانها، لا ينظر افرادها الى ذواتهم كمنتصرين بل كعاملين من اجل اعادة لحمة مجتمعاتهم المضعضعة ومؤسساتهم المفككة. بعبارة اخرى، يكتسب دور القيادات، نظرا لضعف المؤسسات، اهمية اكبر. وتبدو لنا قدرة هذه النخب على الاحتواء بدل الاقصاء صاحبة الافضلية على نوازعها الاخرى وكفاءاتها. ذلك ان الاحتواء، اة بالاحرى ضمان المشاركة الواسعة في ادارة المراحل الاولى من العملية الانتقالية، ضرورة كبرى من ضرورات تثبيت دعائم الاستقرار في مجتمعات التييشوبها الاضطراب المعهود ما بعد الثورات والنزاعات. بعبارة اخرى، يقتضي ذلك، قبل احتدام المنافسة السياسية باسم الديموقراطية، السعي وراء المصالحة الوطنية، وانتهاج الحوار الوطني الجامع سبيلاً للوصول اليها.
ولا يستقيم الحوار الوطني، على الصعد كافة، ما لم يول شؤون التنمية المستدامة عناية خاصة. وذلك لاسباب عديدة. فهي المحكٌ، لدى الكثيرين، لجدية الوعود التي اطلقتها الثورات. وهي التي تتيح بعض التحرر من اسر اللحظة المحاضرة، ذلك ان الحوار الوطني جهد تراكمي يندرج في سياق الزمن الطويل. ولا يعني ذلك تجاهل الانجازات الموضعية الصغيرة ولا سيما المحلي منها وهي ممكنة في مجالات التنمية، بل التوفيق بين الاسراع بصنعها والتأسيس عليها في وضع خطط للمستقبل. ولعلٌ الاتفاق على رؤى وميادرات وبرامج للتنمية المستدامة بواسطة الحوار الوطني من اجل المصالحة الوطنية للارتفاع فوق الحسابات الظرفية والصغيرة ووسيلة للتعالي على الانقسامات. وعلى هذا النحو، يكون التلاقي حول قضايا التنمية حافزاً للحوار والمصالحة ونتيجة له.
الكلمة التي ألقاها الدكتور طارق متري في المؤتمر السنوي التاسع للمنتدى العربي للبيئة والتنمية حول "التنمية المستدامة في مناخ عربي متغير"، الذي عقد في الجامعة الأميركية في بيروت. ومتري مدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية، ووزير سابق، وهو كان الممثل الخاص في ليبيا للأمين العام للأمم المتحدة.
متري يلقي كلمته في مؤتمر "أفد"
على المنبر من اليمين: طارق أمطيرة مدير برنامج تدريب اللاجئين في جامعة لوند السويدية، حسن برتو مدير المشاريع في وحدة ما بعد النزاعات في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، عبدالرحمن الإرياني وزير المياه والبيئة اليمني السابق، عبدالله الدردري نائب الأمين التنفيذي في الإسكوا