يستغرق تنفيذ المشاريع الهندسية الضخمة زمناً طويلاً. وقد لا يكون ثمة أطول من الزمن الذي استغرقه إنشاء قناة الصين العظيمة. فهي أعجوبة بطولها البالغ 1770 كيلومتراً، واستغرق إنشاؤها ألف عام، في مسيرة هائلة بدأت من الجنوب الشرقي لإقليم هانغزهو الساحلي الاستوائي الرطب في القرن الخامس قبل الميلاد، وطرأت عليها إضافات وتمديدات حتى مجيء سلالة "سوي" التي حكمت الصين في الفترة بين 581 و618 قبل الميلاد.
ومما يبعث على الدهشة أن المبادئ المحورية النظرية لمشروع تلك القناة الكبرى لا تزال وثيقة الصلة بوقتنا هذا. فهي تظهر لنا أولاً تعاون المهندسين مع إدارة الدولة في تجربة مع البيئة والاقتصاد تتسم بالتعقيد، وضعت دعامات لسلسلة من الحضارات. وتشير ثانياً إلى أن التجارة هي من عناصر الازدهار الأساسية، فلا وسيلة غيرها ترجح استخدام الموارد الطبيعية على نحوٍ فعَّال، ولأقصى درجة ممكنة من الإنتاجية. فحين يشتغل البشر بالتجارة، تجد مردود ذلك يعود بالفائدة على اثنين: المستهلك والمنتج، ويجد كل منهما مُستطاباً له في السلعة المنتجة. فيتحقق الأمنُ للمنتج من خلال اكتفائه الذاتي من الغذاء، وحصوله على مدخول مقابل تداول الفائض تجارياً، أما المستهلكون في المناطق المفتقرة للموارد الطبيعية فتصبح لديهم القدرة على المضي في أنشطتهم الاقتصادية، وقد تزودوا بإمدادات ثابتة من السلع الغذائية التجارية.
وعلى رغم أن أجزاءً من قناة الصين العظيمة عانت أزمنة متقطعة من الإهمال، إلاَّ أن المدن الواقعة على امتدادها شهدت ازدهاراً طال آلاف السنين. لقد أنشأت الصين القناة، فخلقت القناةُ الصين. وكان الغرض التجاري من القناة، في الأصل، وثيق الصلة بالغزو الذي لا خلاف على همجيته، والذي يمكن النظر إليه من بعض النواحي كشكل بدائي من أشكال التجارة. وأصل الحكاية هو أن "فوشاي" إمبراطور الـ "وو" كان هو من أمر بإنشاء المرحلة الأولى من القناة، رغبةً منه في امتلاك القدرة على تسهيل إمداد قواته في الشمال بالمياه من قاعدة تمركز نفوذه في الجنوب. وكان ذلك يعني طمأنة الجنود في الشمال ألا يقلقوا بشأن توفر كفايتهم من الغذاء أثناء الحملة العسكرية. ويروي تاريخ البشرية أن معظم الصراعات العسكرية قد حُسِمَ لمصلحة طرف أو آخر بسبب نفاد الغذاء، وكان نابوليون قد تلقى نصيحةً بأن يعي هذا الدرس خلال غزوه لروسيا. هكذا كانت القناة الكُبرى هي الحل الذي وجدته الدولة الصينية لهذه المشكلة، لآلاف السنين، قبل أن تنجح أوروبا في حلها. الأغذية والأسلحة شيدت القناة، التي جلبت الغذاء والأموال.
وكانت المخاطر تحيط بالقناة طوال الوقت، ولم يكن أهونها حقيقة أن القناة تمُرُّ بالعديد من المساحات الشاسعة من الأراضي المنخفضة، منها منطقة حوض النهر الأصفر، وكانت تتعرض جميعها للفيضان بصورة دورية، فكانت الطبيعة في كثير من الأحيان تناوئ القناة. ولم تكن في ذلك وحدها، إذ أن قادة الجيوش الدفاعية، وقد فطنوا إلى الصلة بين سَـوْقِيَّات الغذاء وإحراز النصر في المعارك الحربية، كانوا يلجأون إلى تصديع القناة لوقف تقدم الجيوش الغازية. وعلى أي حال، كانت أحوال الجيش الصيني تنتعش عندما تجري المياه في القناة.
هكذا، يمكننا أن نصل إلى أن الأشغال الهيدروليكية في المجتمعات الصينية القديمة، وأيضاً في وادي النيل، ومنطقة نهري دجلة والفرات، وحوض نهر السند، إنما كانت في بعدها الاستراتيجي وسيلة فرض السيادة على أراض جديدة.
|