إدارة الأزمات ليست علماً فحسب، بل هي فن يستند إلى التجربة والخبرة في الحكم على الأمور والاستجابة للمتغيرات بردود أفعال تقلل الخسائر وتستجلب المنافع. وهذا لا يعني التعامل مع أخطار الأزمة وتجنبها فقط، كما حصل في المشهد الشهير لتفادي الطلقات في فيلم "المصفوفة" (The Matrix)، إنما يتطلب الأمر في غالب الأحوال استخدام تكتيكات متعددة لمواجهة الأزمة، من شاكلة تفجيرها من الداخل، ومسايرتها ثم حرفها عن أهدافها، وتسريعها بهدف إبراز تناقضاتها، وأساليب أخرى يعرفها المختصون.
أحد أشكال معالجة الأزمة هو خلق أزمة مضادة مسيطر عليها. ومن أشهر الأمثلة على ذلك قيام رجال الإطفاء بإشعال حريق مسيطر عليه في مواجهة حريق كبير في إحدى الغابات، هكذا لا يجد الحريق الكبير ما يلتهمه من أشجار في طريقه، كما أن الحريق المفتعل يستنزف الأوكسيجين اللازم لانتشار الحريق الكبير، وبالتالي فإن النيران تأكل بعضها حرفياً.
من ناحية أخرى، ثمة أساليب تقليدية لمواجهة الأزمات غالباً ما تؤدي إلى التغطية على مظاهرها من دون تناول الأسباب. ولذلك فإن هذه الأساليب لا تقدم معالجة جذرية تحول دون عودة نشوء الأزمة وبشدة أكبر في كثير من الأحيان. من هذه الأساليب أسلوب النعامة (الهروب) وأسلوب القفز فوق الأزمة، كأن يتم تجاهل الأزمة أو التنصل من مسؤولياتها أو الادعاء بأنها قد عولجت.
في الأيام القليلة الماضية شاهدنا نموذجين عن إدارة مشكلة تلوث الهواء بأسلوب القفز فوق الأزمة، وفي الحالتين كانت الأدوات المستخدمة فريدة من نوعها وغير مسبوقة.
بلد آسيوي استضافت عاصمته اجتماعات ضمّت عدداً من زعماء العالم. وبما أن هذه العاصمة معروفة بتلوث هوائها إلى مستويات خطيرة، وبشكل يتناقض مع الشعارات الكبيرة لهذه الاجتماعات التي تشمل مواجهة تغير المناخ وتبني مصادر الطاقة المتجددة، فقد عمل المسؤولون في هذا البلد إلى اتخاذ عدد من الترتيبات الموقتة لمواجهة الأزمة التي وقعوا فيها. من هذه الترتيبات: إغلاق المصانع خلال فترة الاجتماعات، وتقييد استخدام وسائط النقل الخاصة، ومنح العمال والموظفين الحكوميين إجازة رسمية، وتوفير القروض الميسرة والحسومات المغرية لقضاء الإجازة في الأماكن السياحية خارج العاصمة.
وهكذا نجح هؤلاء المسؤولون في القفز فوق الأزمة عن طريق "رشوتها"، أي لم يكن هناك مانع من خسارة بعض الأموال لإخفاء مظاهر الأزمة بشكل موقت. ومن الواضح أن تلوث الهواء سيعود بعد الاجتماعات أكثر مما كان قبلها، وذلك لتعويض توقف المعامل عن الإنتاج، ولسان حال المواطنين سيقول: دامت ديارنا عامرة بالاجتماعات الدولية.
الحالة الثانية كانت في بلد يعاني من مشاكل في تلوث الهواء، لا سيما في نهاية الموسم الزراعي حيث يقوم المزارعون بحرق مخلفات المحصول مما يتسبب في زيادة المشاكل التنفسية بين المواطنين نتيجة انتشار دخان الحرائق إلى مسافات واسعة.
المفارقة أن أبعاد هذه المشكلة، بما فيها الأسباب والحلول، معروفة للجميع، ولكن لسبب أو لآخر ما زالت هذه الأزمة تتكرر كل عام ومنذ سنوات بعيدة. الجديد هذه السنة هو قيام الجهات المسؤولة بتخصيص رقم هاتفي لاستقبال الشكاوى عبر تطبيق "واتسأب"، والترويج في وسائل الإعلام أن الأراضي الزراعية مراقبة بالأقمار الاصطناعية وسيتم تحرير مخالفات بحق من يتم ضبطه أرضياً وفضائياً، وكأن الأزمة تحدث على كوكب آخر، وتعذر حلها ناتج عن خلل في الاتصال والتواصل!
في كلا البلدين تهاون في التصدي لمشكلة تلوث الهواء وتساهل مع المتسببين فيها. قد يكون ذلك ناتجاً عن قناعة لدى بعض المسؤولين بأن التلوث هو الضريبة التي يتوجب دفعها لتحقيق النمو الاقتصادي السريع وتعزيز مصادر الدخل. وقد غاب عن فكر هؤلاء أن ما يتم توفيره من خلال السماح بإطلاق الملوثات من دون معالجة يتم دفع أضعافه لمعالجة نتائج هذه الملوثات على صحة الإنسان وسلامة المحيط.
أياً تكن الأسباب، لا يجوز القفز فوق الأزمات البيئية الخطيرة باتباع إجراءات وقتية أو شكلية، أكان ذلك برشوة الأزمات أو بالتفرج عليها عن طريق الأقمار الاصطناعية.