أين موقع البيئة في التحولات الكبرى التي يشهدها العالم العربي، وهل تكون ضحية أخرى للحروب والنزاعات وصراع البقاء؟
نصف البلدان العربية تعاني اليوم صراعات مسلحة، تصيب شظاياها جميع دول الجوار. ومهما تكن الحلول والتسويات، فالعالم العربي الذي نعرفـه لن يعود كما كان، بل سيشهد تغييرات كيانية هي الأكبر منذ مئة سنة.
الاستجابة لهذه التحوّلات ما زالت شبه معدومة، على ما يظهر في الاجتماعات والتقارير، التي تستمر في تكرار كلام قديم، كأن شيئاً لم يتغير منذ العام 2010. معظم الناس يعيشون في حالة إنكـار للواقع المدوّي، الذي يشير إلى أن العـالم الذي نعرفـه يموت، والعالم الجـديد يعاني مخاض الولادة ولا نعرف شكله بعد. ومن يقرأ تقارير المنظمات والهيئات والجمعيات عن البيئة والتنمية في العالم العربي اليوم، يظن أنه يستمع إلى أصوات من كوكب آخر. فهي تتجاهل الآثار الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية للحروب والنزاعات، وتفكك دول ومجتمعات كاملة وما نتج عنه من ملايين المشردين والمهجرين واللاجئين والضغوط على الموارد الطبيعية.
على المستوى السياسي، تفاوتت «الاستجابة البيئية» في دول المنطقة للمتغيرات. ففي حين تراجع البعض عن خيارات متطورة كانت معتمدة في الماضي، اعتمد البعض الآخر تعديلات في مهام وزارة البيئة بما يستجيب لمتطلبات عصر جديد. وفي دول أخرى، اختفت البيئة من التركيبة الحكومية أو تقلّص وجودها لتصبح جزءاً من وزارة أخرى.
السؤال الذي تتوجب الإجابة عنه هنا: هل ينحصر عمل وزارة البيئة في مهمات من نوع إدارة جمع النفايات ومعالجتها وقياس أرقام التلوث، أم أن مهمتها الأولى وضع الاستراتيجيات والخطط الإنمائية التي تضمن إدارة سليمة للموارد واعتماد مبادئ الإنتاج الأنظف، بما يؤدي عملياً إلى إدارة رشيدة للاستهلاك وتخفيف التلوث والتحكّم بكمية النفايات ونوعيتها؟
كانت تونس سبّاقة بين البلدان العربية في ربط البيئة بالتنمية على مستوى القرار السياسي، من خلال إنشاء «وزارة البيئة والتنمية المستدامة». الحكومة التونسية الجديدة التي أُعلنت الشهر الماضي دمجت البيئة بالبلديات في نطاق «وزارة الشؤون المحلية والبيئة»، والتبرير الذي ساقته لهذا التبديل هو أن الدمج يساعد في معالجة مشكلة إدارة النفايات على المستوى المحلي. هذا التدبير شكّل تراجعاً جذرياً في الرؤية الاستراتيجية لمهام وزارة البيئة، من مخطط للسياسات الإنمائية إلى مدير للنفايات.
المملكة العربية السعودية رفعت البيئة إلى المستوى الوزاري هذه السنة في نطاق «رؤية السعودية 2030»، محصورة في «الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة» التابعة لوزارة الدفاع. في التعديلات الجديدة، تحولت «الرئاسة العامة» إلى «هيئة عامة» مع الحفاظ على مهماتها في مجالات البيئة والتنمية المستدامة، لكن القرار السياسي أصبح في نطاق «وزارة البيئة والمياه والزراعة». وبينما دخلت «البيئة» في الوزارة السعودية للمرة الأولى، حصل هذا عبر دمجها مع المياه والزراعة. يرى البعض في هذا الدمج خطوة عملية قد تؤدي إلى قرارات سريعة لمواجهة التحدي البيئي الأبرز في المملكة، وهو إدارة المياه، باعتبار أن الهدر الأكبر لهذا المورد النادر المتناقص يحصل في المجال الزراعي. لكن البعض الآخر يتخوف من أن الدمج قد ينتقص من قدرة إدارات البيئة على وضع ضوابط على استخدامات المياه في الزراعة. لكن الخطوة الأهم أن البيئة دخلت في الوزارة، وتبقى العبرة في التنفيذ.
سلطنة عُمان حافظت على وزارة «البيئة والشؤون المناخية»، وهي كانت أول دولة عربية تربط المناخ بالبيئة على المستوى الوزاري. وكانت البيئة والبلديات مدمجة في وزارة واحدة سابقاً في الحكومة العُمانية، قبل قرار تحويل مهماتها من الشؤون التنفيذية اليومية إلى التخطيط الاستراتيجي، وهذا يتناقض مع ما حصل في تونس.
الإمارات العربية المتحدة سارت على المسار نفسه، إذ فصلت المياه عن البيئة في التركيبة الوزارية هذه السنة، واستحدثت وزارة «التغير المناخي والبيئة».
مهما يكن شكل الدول والحدود، فالحياة تستمر ولن نستطيع الهرب من مواجهة تحديات البقاء في بيئة سليمة، ومعالجة الآثار المدمّرة للحروب والنزاعات. هذا يوجب إدارة الموارد الطبيعية بحكمة، بما يوازن بين حق الجيل الحاضر وحقوق الأجيال المقبلة. واعتماد مبادئ التنمية المستدامة هو الطريق الوحيد لتحقيق هذا الهدف.
تحديات تغيّر المناخ وتحقيق أهداف التنمية المستدامة ترسم خريطة الطريق للمستقبل. هكذا، الخيار الأفضل على مستوى السياسات البيئية في عالم عربي متغيّر قد يكون دمج البيئة وتغيّر المناخ والتنمية المستدامة في وزارة واحدة، تكون مهمتها التخطيط الاستراتيجي والتنسيق والمراقبة.