يُعتبر البعد البيئي أحد ركائز التخطيط الحضري للمدن والتجمّعات السكنيّة الجديدة. ويتجلّى ذلك من خلال وضع مخطط لاستخدام الأراضي يُراعى فيه تحقيق نسبة دنيا للمسطّحات الخضراء، إلى جانب مراعاة الانسجام مع المكان المحيط كالأحراج والغابات والمجاري المائيّة والحفاظ على الموائل الطبيعيّة للنباتات النادرة والحيوانات المهدّدة بالإنقراض، وما إلى ذلك من متطلبات بيئيّة يتم تناولها من خلال دراسات تقييم الأثر البيئي والاجتماعي.
إن ابتكار مواد بناء جديدة وتطوّر برمجيّات التصميم فتح الأبواب واسعة أمام المهندسين المعماريين لتأكيد أن العمارة ليست مجرّد عمل تمدّن، وإنما هي فعلُ ثقافة يعكس تطور الأمم وتحضّرها، كما فعلت الأوابد التاريخية التي تركتها الحضارات السابقة.
الجيّد في الموضوع أن معظم التصاميم المعمارية الجديدة تضع البيئة في طليعة أولوياتها، وتجعل التوفير في الطاقة والحد من استهلاك الموارد وتدوير النفايات ومعالجة المياه والتخضير سمات مميزة لها.
عندما ينظر أحدنا بعين المختص إلى تصميم مجمّعات سكنيّة وتجاريّة مثل أبراج "النُصُب الآسيوية" (Asian Cairns) في مقاطعة شنزن الصينية، تصدمه الدهشة بجرأة التصميم الذي يقتبس من أكوام الحجارة الموضوعة بعضها فوق بعض فكرةً أساسية له، ولا يملك سوى أن يعبّر عن إعجابه بانسجام التصميم مع محيطه وجماليّة استخدام مواد البناء والمعالجة البيئيّة المبدعة لمسائل الطاقة والموارد الطبيعية.
لا يقتصر الأمر على المجمّعات السكنيّة والتجاريّة، فالتخطيط الجيّد والدراسة البيئيّة المتكاملة جعلت من معالجة مشكلة عدم توفر الأراضي، بإقامة مطمر للنفايات الصلبة في خليج طوكيو، فرصة جيّدة للتوسع الحضري المستقبلي على الأرض المردومة. فأصبح سطح المطمر متنزهاً يضم مجمّعاً للنباتات الاستوائيّة يعتمد على غازات المطمر كمصدر للطاقة. إضافة إلى ذلك، شكّلت جوانب المطمر المغمورة موئلاً جديداً للكائنات البحرية.
في المقابل، عندما يغيب تقييم الأثر البيئي والاجتماعي ويصبح التعرض للمشاكل البيئية والاجتماعية وكيفيّة معالجتها أمراً شكلياً، ستكون نتائج التخطيط غير مرضية، إن لم تكن كارثية، وإن كانت الغايات التنموية واضحةً للغاية.
في سورية، تركز العمل على مشروع "حلم حمص"، الذي يستهدف إعادة تنظيم وعصرنة الوسط التجاري للمدينة، على الجانب التصميمي الإبداعي، وتجاهل بشكل واضح تقييم الأثر الاجتماعي. وفي النتيجة، لا يستطيع أحد أن ينكر أن هذا المشروع هو أحد الأسباب المباشرة للمأساة التي تشهدها المدينة.
كذلك الحال بالنسبة لمشروع "تطوير حديقة جيزي" في "ساحة تقسيم" في اسطنبول، إذ من الظاهر أن تجاهل الأثر الاجتماعي والبيئي للمشروع هو الفتيل الذي أشعل التظاهرات في تركيّا، بغضّ النظر عن الأسباب الكامنة الأخرى.
في مجتمعاتنا التي تملك وسائل التواصل الخاصة بها، أصبحت خياراتنا محدودة، فإما نسعى إلى عمارة بيئية تشاركيّة تحقق التنميّة المستدامة، وإما نتبنى عمارة هدّامة لن تتوانى عن تدمير كلّ من يعمل بها. فأيّهما نختار؟
|