تعلمنا خلال دراستنا الأكاديمية أن "القانون" هو مجموعة من القواعد العامة المجردة الملزمة التي تحكم سلوك الأفراد داخل المجتمع ويترتب على مخالفتها جزاء توقعه السلطة العامة. وكان هذا التعريف مقدمة لدراسة مادة القانون، وبشكل محدد التشريع البيئي، بما في ذلك الاتفاقيات والبروتوكولات البيئية الدولية التي تعتبر صيغة من صيغ التشريعات، وتندرج تحت مسمى القانون الدولي.
إن ما يخص تعريف "القانون" بصيغته العامة ينطبق أيضاً على الاتفاقيات الدولية، باعتبارها شكلاً من أشكال التشريع مع لحظ مبدأ سيادة الدول. وبالتالي فإن نجاح الاتفاقيات البيئية الدولية وقدرة أطرافها على تحقيق الغاية منها لا يعتمد فقط على النيات الطيبة وإنما يرتبط أيضاً بمدى صياغتها وفق المحددات العامة لإنفاذ القوانين.
لتوضيح هذه الفكرة، قد يكون من المناسب تحديد مواطن الضعف في الاتفاقيات الدولية حول تغير المناخ التي تحول دون تطبيقها على الشكل الأمثل.
هناك الكثير مما يمكن قوله حول محدودية اتفاقيات التغير المناخي وغياب صفة "العمومية" عنها. فالدول الكبرى تحاول على الدوام مواجهة أي نصوص تفرض التزامات عليها لتخفيض الانبعاثات. وفي حال فشلت في تحجيم هذه الاتفاقيات حسب مصالحها، فإنها تنأى بنفسها عنها وترفض المصادقة عليها والانضمام إليها. وهكذا تصبح هذه الاتفاقيات محدودة الأثر، كونها تطبق فقط على الدول الأطراف الموقعة عليها وليس على جميع دول العالم بلا استثناء. وأبرز مثال على ذلك امتناع الولايات المتحدة عن الانضمام إلى بروتوكول كيوتو، علماً أنها أكبر منتج لغازات الدفيئة في العالم بعد الصين.
هل تتصف اتفاقيات التغير المناخي بالتجرد؟ نعم، إلى حد معقول. فالأهداف منها واضحة ومحددة وقابلة للتنفيذ. ومن ذلك مثلاً أن هذه الاتفاقيات تسعى إلى عدم تجاوز ارتفاع حرارة كوكب الأرض درجتين مئويتين مقارنة بما قبل النهضة الصناعية. ولكن الخلاف المتكرر حول المسؤوليات ومساهمات الدول في تحقيق هذا الهدف، أو ما اصطلح على تسميته "المسؤوليات المتباينة"، يضعف إلى حد كبير فاعلية هذه الاتفاقيات ويجعلها عرضة للتجاذبات، كما حصل مؤخراً في اتفاقية باريس نهاية 2015.
اتفاقيات التغير المناخي هي بمجملها غير ملزمة. لقد أخلّت كل من اليابان وروسيا وكندا بتعهداتها المترتبة عليها كأطراف في بروتوكول كيوتو، فماذا حصل؟ لم تكن هناك أية عقوبات. آخر الابتكارات التي جاءت بها اتفاقيات التغير المناخي هي إقرار مبدأ "المساهمات المعتزمة المحددة وطنياً" (INDC) في مؤتمر باريس، وهو أن تقوم الدول بتحديد التزاماتها وطنياً وتسعى إلى تحقيقها، من دون وجود صيغة إلزام دولية. وفي حال فشلت هذه الدول بتحقيق الالتزامات التي وضعتها لنفسها، فإنها ستتعرض للإحراج والتشهير من قبل جماعات الدفاع عن البيئة.
"عقب أخيل" في اتفاقيات التغير المناخي هو في عدم إقراراها مبدأ العقاب. المفارقة هي أن عدم الالتزام بالحد من انبعاثات غازات الدفيئة يعرض جميع سكان الأرض للخطر، أي أن ذلك يفوق بكثير المخاطر الناتجة عن الاعتداءات الإرهابية أو الجرائم ضد مجموعات محددة. وفي المقابل، لا نجد في القانون الدولي أي عقاب لمن يخالف اتفاقيات التغير المناخي!
لقد أخضعت "اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ" عام 1992 النزاعات التي تحصل بين الدول في مسألة التغير المناخي إلى التحكيم الدولي أو محكمة العدل الدولية في حال فشل الأساليب الودية. ولكن هل تستطيع دولة من العالم الثالث محاكمة اليابان مثلاً على مخالفتها اتفاقيات التغير المناخي غير الملزمة أصلاً؟
صيغة العقاب الوحيدة في تاريخ اتفاقيات التغير المناخي هي في نتائج مفاوضات عام 2001 التي أقرت، بالرغم من اعتراض العديد من الدول، أن تلتزم الدول المتقدمة بتخفيض نسبة أكبر من غازات الدفيئة في حال فشلت في تحقيق أهدافها بخفض هذه الغازات خلال فترة الالتزام الأولى من بروتوكول كيوتو بين عامي 2008 و2012. ومع اعتراض الدول الكبرى، ظلت صيغة العقاب هذه عديمة الأثر على أرض الواقع.
يمكن اعتبار بروتوكول كيوتو الحد الأقصى لما يمكن فرضه من التزامات على الدول الأطراف. وهذا ما يظهر من تصريح وزير الخارجية الأميركي قبل بدء مفاوضات اتفاقية باريس الأخيرة، بأن الولايات المتحدة لن توقع اتفاقية من شاكلة بروتوكول كيوتو تستوجب إصدار تشريعات بيئية وطنية جديدة.
لقد كان الشغل الشاغل للعاملين في مجال التغير المناخي هو تحقيق إجماع دولي حول ضرورة مواجهة هذه المشكلة، وهذا ما تحقق فعلياً في اتفاقية باريس. لكن البعض يقول إن لا قيمة كبيرة لهذا الإجماع إذا كانت هذه الاتفاقية، كما الاتفاقيات التي سبقتها، لا يترتب على نقضها أي جزاء؟
لكن الجديد في اتفاقية باريس أنها أعطت إشارة واضحة للقطاع الخاص، كما للحكومات، للاستثمار في الطاقات النظيفة والمتجددة وتنويع الاقتصاد. ويعتبر كثيرون في هذا نوعاً من الإلزام.