نظر العرب الأقدمون إلى السماء ليلاً، فلفت نظرهم شريط نجوم تشبه في تناثرها التبن الذي تبعثره مواشيهم أثناء إطعامها، فسمّوا هذه الظاهرة الفلكية "درب التبانة".
أما في الأساطير اليونانية القديمة، فيقال إن هرقل فشل في الرضاعة من هيرا، ربة الأوليمب، ومن شدة سخطه وإحساسه بخيبة المسعى، تناثر الحليب من فمه للفضاء الخارجي مكوناً الطريق اللبني (Milky Way).
على أي حال، مهما بعدت الشقة بين تبن العرب وحليب هرقل، يوشك سكان الأرض أن يفقدوا القدرة على مراقبة المجرة التي تنتمي إليها شمسهم مع شموس أخرى لا تعد ولا تحصى، بعد أن أغرقوا شوارعهم ومنازلهم في المدن والضواحي بالأضواء الاصطناعية المنبعثة من المصابيح الكهربائية.
تشير دراسة حديثة إلى أن ثلث سكان العالم قد أفقدتهم تلك الأضواء متعة مراقبة شعاعات نجوم المجرة، ومعظمهم في العالم الصناعي المتقدم، الذي أقام لنفسه مظل من أضواء ينتجها، أبعدته عن أضواء أثارت مخيلة البشر منذ عرفوا تأمل صفحة السماء في الليالي الصافية.
ويرى مؤلفو هذه الدراسة، وهم علماء إيطاليون وألمان وأميركيون، أن تلك المظلة من الأضواء تصنع نوعاً من التلوث نتيجة توهجها عند محاولتها اختراق هواء الغلاف الجوي الملوث بذريرات مواد مختلفة الأنواع والمصادر. فتسطع في السماء ليلاً حاجبة ملامح الطريق اللبني عن 60 في المئة من الأوروبيين.
وهذا النوع من التلوث بالسطوع الضوئي قطع العلاقة بين درب التبانة و80 في المئة من الأميركيين، فمن أراد منهم الاستمتاع بمراقبة نجوم مجرتنا، عليه أن يذهب إلى إحدى الحدائق القومية المحمية من الأضواء الساطعة. ويُذكر في هذا السياق أن إضاءة المدن الأميركية، نسبة إلى كثافة السكان، تفوق الإضاءة الألمانية بما يتراوح بين 3 و5 مرات. وتتخذ ألمانيا إجراءات لخفض إضاءة المدن، منها إظلام الطرق السريعة، كما أن سكان برلين صاروا يميلون إلى عدم إضاءة حدائق مدينتهم ليلاً، ويتعاملون معها كأنها محميات طبيعية.
وقد حصل الباحثون على بيانات عن هذه الأحوال في قارات العالم، أوضحت أن كوريا الجنوبية تأتي في مقدمة الدول الآسيوية التي انقطعت صلتها بدرب التبانة، فهي الأعلى بين الدول من حيث مستويات التلوث الضوئي نظراً لكثافتها السكانية الكبيرة. ومعها في المرتبة ذاتها تقريباً سنغافورة، حيث تغمر الأضواء كل مكان وكل شيء، لدرجة أن الناس يفقدون القدرة على التكيف مع الرؤية الليلية.
وتوصي الدراسة بمراجعة ترتيبات الإضاءة في دول العالم لكبح تفاقم التلوث الضوئي، واستخدام أضواء LED الأهدأ ألواناً والأقل حرارة ولا يعمي توهجها الأبصار عن صفحة السماء، خاصة بعد أن طوعتها التكنولوجيا لتخفض استهلاك الطاقة أيضاً. وقد استجابت بعض المدن الأميركية لهذه التوصية، فأخذت بها مدينة ديفيس في ولاية كاليفورنيا، بعد أن اشتكى سكانها من شدة توهج أضواء الشوارع ليلاً.
إن البشر الذين أبعدتهم أضواؤهم المبهرة عن تأمل السماء قد فاتهم أيضاً أن للكائنات الليلية التي تشاركهم خريطة الحياة الحق في ممارسة حياتها التي تستحب الظلام، فشاعت الفوضى في سلوكيات تزاوجها وهجراتها، بعد أن صار يومها نهاراً متصلاً.
|