مرعبة هي الأرقام التي تضمنها التحديث الأخير لقاعدة بيانات جودة الهواء في المناطق الحضرية، الذي أنجزته منظمة الصحة العالمية خلال شهر أيار (مايو) 2016. وفقاً لهذه الأرقام، فإن 80 في المئة من سكان المناطق الحضرية تتجاوز نسب "المعلَّقات" في هوائهم الحد الأقصى الذي حددته المنظمة، وهو 10 ميكروغرام في المتر المكعب يومياً كمعدل سنوي مسموح للجسيمات الدقيقة PM2.5 التي يقل قطرها عن 2.5 ميكرون.
وتضم قاعدة بيانات المنظمة قياسات لنحو 3000 مدينة في 103 دول حول العالم. ومن الملاحظ أن 98 في المئة من المدن التي يزيد عدد سكانها على مئة ألف نسمة في الدول المنخفضة الدخل والمتوسطة الدخل، لا تفي بالدلائل الإرشادية الخاصة بنوعية الهواء التي وضعتها منظمة الصحة العالمية.
تضمنت قاعدة بيانات جودة الهواء معطيات عن 53 مدينة في 12 بلداً عربياً. وقد تجاوزت نسب المعلقات في جميع هذه المدن الحد الموصى به عالمياً، باستثناء مدينة مغربية واحدة هي مدينة "آسفي". وا أسفي على هواء العرب!
هناك من المسؤولين العرب من اعترض بشدة على ما نشرته منظمة الصحة العالمية، بل اعتبر أن الأرقام التي تخص مدينته مغلوطة وتمثل استهدافاً لها وستتم مقاضاة من يقف وراءها. أتفهم وجهة نظر هذا المسؤول، خاصة أن معدل الجسيمات PM2.5 الذي نشرته المنظمة لهذه المدينة هو رقم خطير جداً مقداره 152 ميكروغرام في المتر المكعب.
لندرك خطورة هذا الرقم سنقوم بإجراء هذه الحسبة المبسطة: إذا علمنا أن الإنسان يتنفس سنوياً نحو خمسة ملايين ليتر من الهواء، فبفضل هذا الرقم سيدخل إلى رئتيه أكثر من 275 غراماً من المعلقات والجسيمات الدقيقة خلال سنة واحدة. وإذا قُدّر لهذا الإنسان أن يعيش 60 عاماً، فإنه سيتوفى وفي رئتيه نحو 16.6 كيلوغرام من الغبار والملوثات. أي ان من يتبع حمية غذائية ويراقب ما يدخل فمه لإنقاص وزنه، عليه التفكير جدياً بمراقبة ما يدخل أنفه أيضاً!
من الواضح أن هذا الرقم ضخم جداً، ومن حق ذاك المسؤول أن يحتج بشدة على أرقام منظمة الصحة العالمية، وأن يعرض في المقابل الرقم الصحيح، الذي سجلته محطات رصد نوعية الهواء الخاصة بمدينته، الذي يبلغ 68 ميكروغرام في المتر المكعب. وفق الرقم الرسمي، سيكون من الرائع أن ينتهي عمر الإنسان بعد 60 عاماً وفي رئتيه 7.5 كيلوغرام فقط من الغبار والملوثات، فهذا أفضل من أن يكون فيهما 16.6 كيلوغرام!
هل نحن بحاجة إلى أرقام منظمة الصحة العالمية، التي تعتمد عادة على الأرقام التي توفرها الحكومات، كي نقتنع أننا نعاني من مشاكل جسيمة في نوعية الهواء الذي نتنفسه؟
إذا كانت الأرقام لا تمثل لك شيئاً، عليك بالوقوف في وسط سوق البطحاء في الرياض، أو ميدان العتبة في القاهرة، أو تحت جسر الثورة في دمشق. افرد ذراعيك إلى أقصاهما كما ينشر النسر جناحيه. حسناً، لا تفردهما كثيراً كي لا تعرقل حركة السير. خذ نفساً عميقاً تملأ به صدرك، تماماً كما تفعل سمكة البالون عندما يقترب خطر منها. تُرى، ما هو انطباعك الآن عن تلوث الهواء؟
ها قد خرج مسؤول عربي إلى العلن ليحتج على أرقام تنشرها المنظمات الدولية حول نوعية الهواء، ويعرض في مقابلها أرقاماً تفوق بكثير الحدود الدنيا الموصى بها عالمياً. إن نوعية الهواء في غالبية الحواضر العربية سيئة جداً، وبشكل مرعب، وإن تكن هذه المشكلة في جانب منها ناتجة عن أحوال الجفاف والتصحر التي تتسع حولنا. لكن المرعب حقاً أن مسؤولينا يهتمون كثيراً للتقليل من ظاهر الأرقام المعلنة، وكأن أرقامهم التي يحتجون بها أخف وطأة وألطف أثراً.
|