شهدت مصر خلال الأعوام بين 1065 و1071 قحطاً ومجاعة شديدين، حيث نقص منسوب نهر النيل وجفّت الأراضي وخلت المخازن السلطانية من القمح والغلال وانتشرت الأمراض. وعرفت تلك الفترة باسم "الشِدّة المستنصريّة"، نسبة إلى حاكم البلاد المستنصر بالله. وقيل إن مصر في هذه الأزمة فقدت ثلث سكانها وخلت قرى من أهلها ونزل الجند لزراعة الأراضي بعد أن هلك الفلاحون.
ويصف المؤرخون مشاهد قاسية عن "الشدة المستنصرية"، إذ تصحّرت الأرض، وهلك الحرث والنسل، وخُطف الخبز عن رؤوس الخبازين، وأكل الناس القطط والكلاب. حتى بغلة وزير الخليفة الذي ذهب للتحقيق في حادثة ذبحها أهل المحلة وأكلوها، بل أكل بعض الناس بعضاً. وخرج من مصر جماعات كثيرة إلى الشام والعراق.
ولئن كانت الشدة المستنصرية هي أقسى أزمات الجفاف المعروفة في مصر، فقد شهدت بلاد الشام في القرن التالي أقسى أزماتها. ففي العام 1124 احتبس المطر في شهور الشتاء، فتلفت المزروعات وعمّ الجدب والقحط. وغلت الأسعار في حلب ودمشق لقلة المعروض من المحاصيل الزراعية الضرورية لإطعام الكثافة السكانية العالية في المدينتين، واستمرت هذه الحال في العام التالي فهلك الضعفاء والفقراء جوعاً.
وتكرر احتباس المطر في الأعوام 1148 و1149 و1157، إلى أن شهدت بلاد الشام أسوأ موسم جفاف عرفته عام 1178 حين انقطع المطر تماماً. وأعقب ذلك غلاء فاحش وعدمت الأقوات، فحدثت مجاعة شديدة اضطرت الناس إلى أكل الميتة. واستمرت الحال هكذا حتى أواخر 1179، حين هطلت الأمطار ورخصت الأسعار. إلا أن وباءً خطيراً، قد يكون الطاعون الرئوي، تفشى في البلاد تلك السنة فحصد أرواح كثيرين، حتى كاد أهل الشام يعجزون عن دفن موتاهم.
الدراسات المعاصرة لعلم المناخ القديم (Paleoclimatology) وثّقت حصول جفاف شديد خلال الفترة بين 1125 و1142 في معظم الدول المطلة على البحر المتوسط، وبشكل خاص في بلاد الشام وبلاد المغرب العربي. إلا أن دراسة محكّمة تم نشرها مؤخراً في مجلة الأبحاث الجيوفيزيائية أظهرت أن دول المشرق العربي شهدت فترة جفاف لاحقة قد تكون أشد مما حصل في القرن الثاني عشر.
خلص البحث، الذي يحمل عنوان "تقلب الجفاف زمانياً ومكانياً في منطقة البحر المتوسط على مدى الـ900 سنة الماضية"، إلى أن بلاد الشام شهدت بين 1998 و2012 فترةً هي على الأرجح (احتمال 89%) الأشد جفافاً في المنطقة منذ القرن الثاني عشر. وهذه الفترة هي بموثوقية أكبر (احتمال 98%) تمثل أشد جفاف يحصل في المنطقة منذ نهاية القرن الخامس عشر.
وأشار معدو البحث إلى أن دراستهم لا تتضمن تقييماً مباشراً لجهة معرفة التأثير البشري على حصول فترة الجفاف الأخيرة. ومع ذلك جاء في البحث أن «تطرفات الجفاف التي حصلت مؤخراً هي استثنائية نسبةً إلى التغيرات الطبيعية خلال الألفية الماضية»، وقد تتعرض المنطقة لفترات جفاف أكثر شدة في المستقبل حيث «سيفاقم التغير المناخي الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية السياسية، وسيتعذر التعامل مع عواقب هذا الجفاف من دون مقاربة متعددة الاتجاهات في الأبحاث والإدارة والسياسات».
قد ينظر البعض إلى نتائج هذا البحث المحكّم بعين التشكيك متسائلاً: هل فترة الجفاف التي مرّت بها بلاد الشام كانت بهذه الشدة حقاً؟ لنكن واقعيين، ونبحث عن جواب على السؤال الأهم: هل ما يحصل في بلاد الشام حالياً يختلف كثيراً في ظروفه ومظاهره عما حصل أيام الشدّة المستنصرية؟
|