من أجمل المعالم المميزة لمدينة حماة السورية نواعيرها، التي تدور على نهر العاصي وتغرف من مياهه لتسقي البساتين وتروي المساكن التي تعلو منسوب النهر. والناعورة هي عجلة خشبية مزودة بما يشبه المجاديف، تُركّب على محور يقع فوق مجرى الماء بحيث تغوص وتتحرك بفعل دفع الماء، الذي يتم رفع مقدار منه ضمن حجيرات محاذية للمجاديف.
من غير المعروف متى استخدمت النواعير لأول مرة، لكن لوحة فسيفساء عثر عليها في مدينة أفاميا الأثرية، التي لا تبعد كثيراً عن حماة، تظهر رسماً لناعورة تم تأريخها بسنة 469 ميلادية. والأرجح أن تاريخ النواعير على نهر العاصي هو أقدم من ذلك، إذ أظهرت صورة عممتها الشرطة الدولية (الإنتربول) فسيفساء بيزنطية الطراز تمثل مشهداً لناعورة وسابحين من حولها، وقد سرقت هذه اللوحة بعد التنقيب عنها بشكل غير شرعي في موقع أفاميا عام 2011.
في بداية القرن العشرين كان عدد النواعير في مدينة حماة والأراضي التابعة لها نحو 105 نواعير، منها 25 ناعورة داخل مدينة حماة. ولم يعد يوجد اليوم سوى 40 ناعورة في حالة العمل، منها 19 ناعورة داخل المدينة، ولعل أشهرها وأضخمها تلك المسماة "الناعورة المحمدية" التي يبلغ قطرها 20 متراً وتزوّد الجامع الكبير بالماء عن طريق قناة تمتد فوق 32 قنطرة، وقد شيدت هذه الناعورة عام 1361.
لقد تميّز العصر الذهبي للحضارة الإسلامية بإنجاز العديد من الابتكارات في ضخ المياه ورفعها. ولئن كان ليوناردو دافنشي هو أشهر مخترعي عصر النهضة في أوروبا، فإن العالِم العربي بديع الزمان أبا العز الجزري هو أحد أعظم المخترعين ومهندسي الميكانيك في التاريخ. ويعود للجزري فضل اختراع المضخة ذات الأسطوانتين المتقابلتين، إضافة إلى تصاميمه الخاصة للنواعير التي تعمل بدفع الماء، والساعات المائية والكثير من الآلات الهيدروليكية الأخرى.
وقد جرت الاستعانة بتصاميم الناعورة التي وضعها الجزري عام 1205 لتنفيذ ناعورة الشيخ محيي الدين على نهر يزيد في مدينة دمشق، التي أنجزت عام 1254، لإيصال المياه إلى أقدم منشأة للطب النفسي هي "البيمارستان القيمري"، إضافة إلى جامع محيي الدين بن عربي والتكية السليمانية. وما زالت هذه الناعورة قائمة حتى الآن، وإن كانت قد أهملت وتوقف استخدامها.
وثمة نواعير أخرى في أكثر من مدينة عربية تشابه في التصميم نواعير حماة، وإن كانت في مجملها قد أهملت أو أزيلت. واللافت أن هذه النواعير شيدت حيثما تواجد العرب تاريخياً، كما هي حال ناعورة قرطبة في إقليم الأندلس الإسباني التي لا تزال قائمة حتى الآن، وناعورة مدينة أنطاكيا على نهر العاصي التي أزيلت منذ زمن بعيد.
مدينة فاس المغربية هي أيضاً من المدن العربية التي اشتهرت بنواعيرها. وأول ناعورة شيدت فيها هي ناعورة وادي الجوهر عام 1286 ميلادية وكانت تروي حديقة المصارة. وبعد ذلك تم تركيب العديد من النواعير، لم تبق منها إلى يومنا هذا سوى ناعورة حديقة جنان السبيل التي تعود إلى القرن الثامن عشر.
ومن النواعير التي اشتهرت واندثرت نواعير العجمية على نهر الفرات في محافظة الأنبار العراقية، وناعورة السوق في مدينة حمص السورية، وناعورة مدينة الرستن السورية على نهر العاصي، ونواعير نهر قويق في حلب ومنها ناعورة التكية المولوية في حي المشارقة التي أزيلت عام 1902 واستعيض عنها بدولاب هوائي لري البستان الملحق بالتكية، ومع مرور الوقت تراجع تدفق نهر قويق فأهمل الدولاب الهوائي وأزيل أيضاً.
لقد كانت النواعير إحدى العجائب الهندسية التي جارى بها الإنسان قوى الطبيعة وروّضها من أجل خدمته. لكنها توقفت إجمالاً نتيجة قلة تدفق الأنهار وتلوث مياهها. ومع ذلك تبقى النواعير نموذجاً مشرقاً من الماضي لاستغلال موارد الطبيعة بحكمة واقتدار من دون تفريط أو إضرار.
|