عاد نجم "الباحث" البريطاني أندرو ويكفيلد ليلمع من جديد بعد قيامه بإنتاج وإخراج فيلم بعنوان "التلقيح: من التستر إلى الجدل" يؤكد فيه شكوكه بوجود مخاطر ناتجة عن التلقيح، وبشكل خاص ادعاءه وجود علاقة بين اللقاح الثلاثي (الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية) ومرض التوحّد، وقيام مراكز علاج الأمراض والوقاية منها بإخفاء الدليل الذي يدعم مزاعمه.
وكان ويكفيلد نشر عام 1998 بحثاً مع زملاء له في مجلة "لانست" الطبية العريقة، خلص فيه إلى وجود علاقة بين اللقاح الثلاثي ومرض التوحّد. والتقطت وسائل الإعلام هذا البحث، وبدأت بتداوله وتأويله على نطاق واسع، مما تسبب في امتناع الآباء عن تطعيم أطفالهم بهذا اللقاح.
نتيجة ذلك، عادت الحصبة وانتشرت من جديد في المملكة المتحدة عام 2008. ولعقد من الزمن حاولت دراسات أخرى التحقق من نتائج بحث الدكتور ويكفيلد من دون جدوى، إلى أن تم التأكد من خلال تقرير استقصائي وتحقيق رسمي أن هذا البحث كان عبارة عن عملية تزييف متقنة اشتملت على التدليس والممارسات العلمية الخاطئة. وفي عام 2010 تمت إدانة ويكفيلد بالاحتيال وعدم المسؤولية، وسحبت إجازته الطبية وجرى شطب اسمه كطبيب.
التشكيك بوجود مخاطر عن اللقاحات (الطعوم) ظهرت منذ أول لقاح تم استخدامه، وهو لقاح الجدري الذي اكتشفه الطبيب البريطاني إدوارد جينر من خلال أبحاثه التي امتدت بين العامين 1796 و1798. وقد اقترنت المخاوف من اللقاحات، أو ما يوصف بعبارة "رهاب اللقاح"، بالنظر إلى الطعوم على أنها أجسام غريبة تدخل جسم الإنسان. إلا أن النجاحات الكبرى التي حققتها حملات التلقيح أدت إلى انحسار معظم الأمراض الخطيرة والقضاء على عدد منها، الأمر الذي ساهم في الترويج لأهمية اللقاحات وفاعليتها في الوقاية من الأمراض.
بالرغم من كل هذه النجاحات، يبقى هناك من يخشى اللقاح. وقد أظهرت دراسة نشرت عام 2010 في دورية "بيدياتريكس" لطب الأطفال أن 90 في المئة من الآباء الذين تم استطلاع آرائهم يثقون بأن اللقاح يوفر حماية جيدة لأطفالهم، ومع ذلك رفض 12 في المئة تلقيح أطفالهم بلقاح أو أكثر.
المفارقة في هذه المسألة هي أن انحسار الأمراض نتيجة حملات التلقيح قد يكون أحد أسباب تمنّع الآباء عن تلقيح أبنائهم. فمع غياب المرض ظهر لدى الآباء انحراف في تقييم المخاطر والمنافع الناتجة عن اللقاح، عززته كثرة أنواع اللقاحات، وتعدد حملاتها، والترويج لمزاعم عن ارتباطها بأمراض خطيرة كما يفعل أندرو ويكفيلد وبعض مناصريه.
وهكذا أصبحنا نرى في القرن الحادي والعشرين العديد من المتعلمين الذين يرون في ما يسمونه "الحماية الطبيعية" حصانة كافية من الأمراض، وكأنما شلل الأطفال أو التهاب الكبد الفيروسي أو الكزاز هي أمراض عابرة شأنها شأن نزلات البرد!
فيلم ويكفيلد Vaxxed: From Cover-Up to Controversy يتناول، بحسب إعلانه الترويجي، مسألة التلقيح بالاستناد إلى نظرية المؤامرة التي تروق للكثيرين. كما أنه يستشهد بحالات فردية لا تخضع لمعايير القياس العلمي ولكنها قد تنطلي على البعض، كحالة المرأة التي تربط بين تراجع نشاط طفلها وحصوله على اللقاح.
إشكالية الفيلم الأساسية هي في صعوبة الموازنة بين حرية التعبير والسماح بعرض وجهة نظر ثبت زيفها على أنها حقيقة علمية. والظاهر أن ويكفيلد يسعى للتلاعب بعقول المشاهدين بشكل غير أخلاقي تحت مظلة التآمر واضطهاد أصحاب الفكر المعارض، وإن كان هذا التلاعب ينطوي على الكثير من الضرر كما فعل بحثه المزيف في مجلة "لانسيت".
|