عادت أزمة النفايات في لبنان إلى المربع الأول بعد فشل خيار التصدير إلى الخارج الذي تبنته الحكومة اللبنانية وسعت إلى تنفيذه خلال الشهرين الماضيين. وكانت الأزمة بدأت منذ منتصف شهر تموز (يوليو) 2015 نتيجة إغلاق أحد المطامر الصحية من دون توفير البديل، وانتهاء عقد ترحيل النفايات مع إحدى الشركات الخاصة.
أشهر مضت تحولت فيها مشكلة تراكم النفايات في الشوارع إلى مسألة رأي عام، وتصدرت خلالها أحاديث الناس وتغطية وسائل الاعلام واهتمامات الجهات الرسمية.
عام 2008، شاهدنا حراكاً شعبياً في مدينة نابولي الإيطالية على أثر تراكم النفايات في الشوارع، في أزمة تكاد تطابق في أسبابها أزمة النفايات في بيروت وجبل لبنان. أيضاً في الحالة اللبنانية كان الحراك الشعبي أحد أهم المظاهر المميزة للأزمة، وربما يعتبر ذلك من المرات النادرة التي نشهد فيها احتجاجات في العالم العربي على خلفية مشكلة بيئية وصحية بامتياز.
أحد الأوجه الإيجابية لهذه الأزمة هو تذكيرها الناس بأن التعامل مع النفايات لا ينتهي بمجرد وصولها إلى الحاويات في الشارع، بل هناك سلسلة طويلة من الإجراءات التي تلي ذلك، وأن أي خلل في هذه الإجراءات قد يتسبب ببقاء النفايات في مكانها. إدارة النفايات ليست مسألة بسيطة كما كان يعتقد الكثيرون، والنفايات في ذاتها ليست ثروة يتنازع العالم للحصول عليها.النفايات مشكلة، ومشكلة معقدة أيضاً.
عام 1987، شُغلت وسائل الإعلام الأميركية بمتابعة رحلة السفينة "موبرو 4000" التي كانت تحمل على ظهرها شحنة نفايات منزلية من إحدى بلديات نيويورك للتخلص منها في ولاية كارولينا الشمالية. وقد تم طرد هذه السفينة من نحو عشرة موانئ، وعادت في النهاية إلى نيويورك. الفشل الذي أصاب السفينة "موبرو 4000" كان حافزاً لنقاش وطني أدى مع مرور السنين إلى ازدياد مطرد في معدلات تدوير النفايات في الولايات المتحدة.
على كثرة المظاهر السلبية لأزمة النفايات في لبنان، فإنها تحمل في طياتها بعض الجوانب الإيجابية. المراقب لهذه الأزمة يستطيع أن يتلمس بوضوح تغيراً إيجابياً في طريقة التفكير ومقاربة الأزمة على جميع المستويات. فبدلا من طرح فرضية "صفر نفايات"، أصبح الحديث يدور حول "الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة". وبدلاً من مسألة "تصدير النفايات"، أخذنا نسمع كلاماً حول أهمية الحد من تولد النفايات والعمل على استرجاعها بجميع الطرق المتاحة. تغير في طريقة التفكير يماثل ما حصل أميركياً بعد قضية السفينة "موبرو 4000".
المشاكل الجديّة هي التي تصنع الفوارق في حياة الشعوب، والعبرة لمن يعتبر. لو لم يحصل تراجع كبير في أسعار النفط، هل كنا سنرى توجهاً حكومياً في دول الخليج كافة لإعادة النظر في سياسة الدعم؟ العبرة هنا ليست في رفع الأسعار لتغطية مشكلة مالية، وإنما في ضغط الإنفاق وحث المواطنين على عقلنة استخدام الموارد والحد من أشكال الهدر.
لقد أقمتُ في إحدى الدول الخليجية لبضعة أشهر، ومن تجربتي فإن قلة من المواطنين والمقيمين يشغل بالهم أمر الاقتصاد في الكهرباء، بل انك تجد أحدهم يستنكر عليك قيامك بفصل الكهرباء عن سخّان الماء وحجته في ذلك أن الكهرباء في هذه البلاد مجانية.
الهدر هنا ليس في الكهرباء فقط، بل في كل شيء تقريباً. القطط، على قول أحدهم، أصبحت سمينة تتنقل من حاوية نفايات إلى أخرى، لا ترضى بأي نوع من الطعام، بل أمست تدلل نفسها بما لذ وطاب.
الحرب، حيث أعيش حالياً (في سورية)، هي أم الأزمات كلها. هناك أزمة في كل شيء، اعتباراً مما كنا نظنها أبسط الأشياء كالخبز والماء وانتهاء بأهم الأمور الحياتية كالعلاج والدواء. مَنْ شرب ماء الثلج يوماً سيقدر بلا شك قيمة المياه التي تصل إلى بيته. ومن عانى من شح الوقود سيسعى على الدوام إلى التفكير في توفير موارد الطاقة، وسيبحث عن مصادر متجددة لا تنفد. المسألة لم تعد قضية "حفظ للنعمة"، بل هي مسألة حياة يومية تفرضها عليك الظروف.
الأزمات والمشاكل الشخصية هي التي تعلّم الأفراد طرقالمجابهة وبذل الجهد للتغلب عليها، ولذلك قالوا قديماً إن "الإنسان يتعلم من كيسه". وعلى ما يبدو، فإن المجتمعات أيضاً تتعلم من كيسها.