لا تزال منشآت صناعية كثيرة حول العالم تعتمد تشتيت الملوثات في الوسط المحيط كطريقة رخيصة الكلفة تحقق بها الاشتراطات البيئية التي تضعها مؤسسات الرقابة الحكومية.
على سبيل المثال، إذا كانت الاشتراطات الوطنية تسمح بتركيز مقداره 0.1 مليغرام من معدن الرصاص في كل ليتر من المنصرفات الصناعية إلى الأنهار، فإن مصنعاً لديه منصرفات يبلغ تركيز الرصاص فيها 0.5 ميلغرام في الليتر سيقوم بخلط كل متر مكعب من هذه المنصرفات الملوثة بأربعة أمتار مكعبة من المياه النقية قبل طرح هذا الخليط المُخفَّف إلى النهر المجاور.
هذه الطريقة تعتبر مفضلة لدى كثيرين، خصوصاً الدوائر الصناعية الحكومية والمنشآت الخاصة في الدول التي لا تضع قيوداً مادية أو قانونية على استنزاف الموارد فيها.
لذلك لا غرابة أن تجد إدارات هذه المؤسسات ترفع شعار "أفضل حل للتلوث هو التخفيف"(The Best Solution for Pollution is Dilution) منهجاً للتعامل مع جميع أشكال التلوث، وتكون مقاربتها في "حماية البيئة" على الشكل الآتي: لديك مشكلة في نسب المعادن الثقيلة في المنصرفات؟ اخلطها بماء نقي قبل طرحها. تراكيز ملوثات الغازات العادمة غير مقبول؟ اجعل ارتفاع المداخن عشرة أمتار لتشتيت التلوث. تم تشديد اشتراطات تراكيز الملوثات في الهواء؟ ارفع المداخن خمسة أمتار أخرى.
هذا النوع من الحلول، الذي يوسّع القاعدة لحمل عبء التلوث بدلاً من إقلال كمية الملوثات، هو الذي أوصل العالم إلى مشاكل بيئية خطيرة كالاحتباس الحراري والأمطار الحمضية، وهو ذاته أوصل بلداننا العربية إلى أزمات كبرى كاستنزاف الموارد المائية العذبة وتراجع نوعية المياه الجوفية. ليس هذا فحسب، بل بدأنا نرى ممارسات عجيبة في العديد من البلدان، ظاهرها معالجة آثار المشاكل البيئية من دون إيجاد حل مستدام لهذه المشاكل. والأمثلة على ذلك كثيرة.
في سورية، قبل نحو عشرين عاماً، رُصدت تراكيز مرتفعة لملوثات الهواء تجاوزت الحدود المسموح بها، وكان ذلك ناتجاً عن قِدم وسائل النقل وتداعي محركاتها. وبدل تقديم تسهيلات لاستبدال الآليات والسيارات بأخرى حديثة، صدر قرار بإضافة وصلة إلى ماسورة طرح الغازات العادمة في الآليات والباصات، بحيث يكون مستواها فوق السقف لتشتيت التلوث. كانت النتيجة أن التلوث تفاقم، لأن الاحتراق في المحركات، المتهالكة أصلاً، قد ازداد سوءاً لصعوبة طرح الغازات العادمة بوجود الوصلات الإضافية. وبعد بضع سنوات، لم يكن هناك بد من فرض استبدال جميع وسائل النقل التي انتهى عمرها الافتراضي منذ فترة طويلة.
مشكلة مشابهة تعاني منها مدينة طهران حالياً، وتتمثل بارتفاع شديد في نسب الملوثات في الهواء، حيث تُعد المركبات العتيقة وعدم تطبيق اللوائح الخاصة بالانبعاثات الأسباب الرئيسية للتلوث في المدن الإيرانية بشكل عام. ومن الملاحظ أن حدة التلوث تشتد في الشتاء، لأن الهواء البارد يحول دون ارتفاع الضباب الدخاني إلى طبقات الجو العليا. من أجل ذلك، بدأت السلطات تحديد أيام يتم فيها إغلاق المدارس في جميع أنحاء العاصمة الإيرانية مع الطلب من الأهالي البقاء في منازلهم لتفادي مخاطر التلوث. أليس الأجدى أن تتم معالجة أسباب المشكلة بدلاً من محاولة تفادي آثارها بتعطيل المدارس والمصالح؟
متى نتعلم أن معالجة مشاكلنا البيئية لا تكون بتجاهل هذه المشاكل، أو بتأجيل مواجهتها، أو بالتخفيف من آثارها موقتاً، أو بمحاولة تصديرها إلى الآخرين؟ متى ندرك أن الحلول البيئية لا تكون بزيادة ارتفاع المداخن أو غلق النوافذ، بل بمواجهة المشكلة نفسها بطريقة مستدامة ذات جدوى؟
|